منذ الازمة المالية العالمية عام 2008 وصولاً الى الأزمة اليونانية الأخيرة والمخاطر الكبيرة التي شهدتها منطقة اليورو والتكهنات حول مستقبل هذا الاتحاد، والتي كان لكل منها انعكاسات كبيرة على الاقتصاد العالمي ككل، فان المشاكل الاقتصادية الاخطر التي عرفها العالم في السنوات الماضية كان مصدرها الغرب.
عام 2015 كشف بشكل واضح ان رياح الاقتصاد العالمي ستهب من الشرق والجنوب مع تباطؤ الاقتصاد الصيني وواقع الاقتصاد البرازيلي القاتم وتراجع النمو في الاسواق الناشئة… فيما يبدو ان الاقتصاد الاميركي يغرد خارج السرب هانئاً بمكاسبه ومستقبله.
2016 سنة «محفوفة بالمخاطر»
في إشارة واضحة الى مسار الاقتصاد العالمي المتوقع خلال العام الجديد، خفض البنك الدولي توقعاته للنمو العالمي عام 2016 الى 2.9% ما يقل بمعدل 0.4% عن التوقعات التي اصدرها في حزيران الماضي. أسباب هذا التشاؤم تعود الى المخاوف التي يثيرها الأداء «المخيّب للآمال» في الاسواق الناشئة الرئيسية، وبخاصة الصين والبرازيل.
وتوقع البنك ان يؤدي تزايد الضعف المتزامن للأسواق الناشئة الكبرى الى تهديد أهداف خفض الفقر، نظراً الى أن هذه الدول كانت المساهم الأكبر في النمو العالمي في العقد الأخير.
ووفقاً لايهان كوس، مسؤول التقديرات الاقتصادية في البنك الدولي، فان «آفاق كانون الثاني الاقتصادية العالمية تخبرنا أنه اذا كانت سنة 2015 مخيبة لآمال الاقتصاد العالمي، فإن 2016 ستكون محفوفة بالمخاطر».
الاقتصاد الصيني: الخطر الأعظم
في دلالة لافتة على مدى التدهور الذي يعانيه الاقتصاد الصيني والمخاطر العظمى التي قد تطاول العالم أجمع إذا لم يُكبح تباطؤه هبطت أمس المؤشرات الرئيسية للاسهم الصينية اكثر من 7% خلال اقل من نصف ساعة على بدء جلسة التداول، مما أطلق آلية استحدثت أخيراً لوقف نظام التداول. فقد دفع الانهيار الحاد لأسعار الأسهم في بورصتي شانغهاي وشنتشن إلى إطلاق آلية قاطع الدائرة الكهربائية المستحدث، الذي بدأ العمل به منذ اليوم الأول للتداول في العام الجديد.
ووصفت وكالة الأنباء الصينية توقف التداول بالحدث غير المسبوق، حيث إنه جرى تسجيل اقصر مدة تداول في تاريخ سوق الأسهم بالصين.
وساهم هبوط اليوان الصيني الى ادنى مستوى له منذ شباط 2011 الى ازدياد ضغوط البيع.
تراجع النشاط الصناعي في الصين في كانون الاول الماضي يعدّ ايضاً احد الاسباب الاساسية التي تقف وراء هذا الهبوط الحاد في الاسهم لكونه يؤشر الى المعاناة المتزايدة التي يعانيها الاقتصاد الصيني.
إلا ان هذه الارتدادات ليست وليدة شهر او اثنين او نتيجة لظرف وحدث معينين، بل على العكس هي حصاد السنوات الخمس الاخيرة منذ بدأ الاقتصاد الصيني يسجل أولى علامات مرضه. فبعدما حافظت الصين خلال العقود الثلاثة الاخيرة على معدل نمو 10% بدأ اقتصاد العملاق الآسيوي يشهد انكماشاً منذ عام 2010 ما نتج عنه تراجع تدريجي في النمو على مر السنوات اللاحقة، الى ان سجل خلال الربع الثالث من العام الماضي نمواً بنسبة 6.9%، وهو اضعف معدل منذ الازمة المالية العالمية عام 2008، كما انه اقل من معدل 7% الذي كانت حكومة بكين تستهدفه.
واضافة الى التقديرات التي تشير الى انه في حال تراجع النمو الصيني بنسبة 2% لمدة عامين سينخفض اجمالي النمو العالمي بنسبة تفوق 0.3%، فان نتائج هذا التباطؤ بدأت تتكشف تدريجياً أكان من حيث التراجع الحالي في أسعار السلع العالمية، أو النفط والمعادن والأغذية.
الاقتصاد الأميركي في صحة جيدة
يتوقع أن يشهد الاقتصاد الاميركي نمواً قد يبلغ 2.8 % السنة الجارية، وهو ما يعد معدلاً جيداً بالنسبة للاقتصاديات المتقدمة. وما قرار المركزي الاميركي برفع اسعار الفائدة سوى مؤشر على ان اقتصاد العم سام في صحة جيدة.
زيادة معدلات الفائدة تترافق مع توجه البنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي إلى تقليص عمليات التيسير النقدي لتحفيز الاقتصاد، ما يؤدي الى خلق فرص عمل جديدة والحد من معدلات البطالة.
إضافة الى ذلك فان الديون الاستهلاكية والتجارية والحكومية مستقرة في الولايات المتحدة، في وقت تشهد فيه اسواق المال الاميركية استقراراً يرجح ان يستمر.
التحسن في الاقتصاد الاميركي والقدرة الشرائية للاميركيين يمكن تبيانه من خلال مبيعات السيارات عام 2015، التي سجلت رقما قياسيا غير مسبوق منذ عام 2000، ما دفع المسؤول عن تويوتا في الولايات المتحدة الى اعتباره عاماً تاريخياً، في وقت حقق فيه كل من جنرال موتورز وفورد وفيات كرايزلر مبيعات وصفت بالتاريخية.
وبدأت الولايات المتحدة عام 2016 بتصدير اول شحنة نفط بعد إلغاء حظر دام أربعين عاما، منذ فرض حظر تصدير النفط في عام 1975 وسط أزمة الطاقة الناجمة عن النزاع في الشرق الأوسط. ويرى مؤيدو رفع الحظر أن القرار ستكون له نتائج إيجابية على الاقتصاد الأميركي، في ظل ظروف نمو إنتاج النفط في الولايات المتحدة.
الأسواق الناشئة… مشكلة تتفاقم
تعاني الاقتصادات الناشئة منذ حوالي عامين هبوطا في معدلات النمو نتيجة التراجع في أسعار المواد الخام والسلع الأساسية التي تصدرها، ما اثر في قدراتها التصديرية وقيمة عملاتها الرئيسية.
وبلغ معدل تراجع الاسواق الناشئة 17% عام 2015، فيما بلغت نسبة التراجع منذ تشرين الأول الماضي حتى منتصف كانون الاول 10%.
واضافة الى المصائب التي تعانيها اساساً وخصوصاً تدهور اسعار النفط وتراجع اسعار المعادن، فزيادة الفدرالي الأميركي لأسعار الفائدة اتت لتعمق من جراح هذه الاسواق، نظراً لكونها ستؤدي الى ارتفاع كلفة الاقتراض وخفض اسعار العملات «نظرا لأن الأموال ستتحرك نحو الولايات المتحدة لتستفيد من ارتفاع أسعار الفائدة هناك، وهو ما سيجعل سداد القروض بالدولار باهظا جدا».
وفي هذا السياق يحتل الاقتصاد البرازيلي واجهة الاحداث، أكان على صعيد اميركا اللاتينية او العالم ككل، حيث توقعت دراسة أجراها المصرف المركزي البرازيلي حدوث انكماش في الاقتصاد البرازيلي بنحو 3% خلال عام 2016، وهو ما يعد أسوأ حالة ركود اقتصادي تشهدها البلاد منذ عام 1901
أوروبا واليابان: استقرار لا يخلو من مخاطر
برغم الحل الباهظ الثمن للأزمة اليونانية لا تزال النار تحت الرماد ليس في ما يتعلق باليونان فقط، بل بدول اوروبية عدة أيضا لها ثقلها الاقتصادي في القارة العجوز كاسبانيا وايطاليا. ويمثّل النمو المتصاعد لليمين المتطرف في دول اوروبية عدة، وخاصة فرنسا، مخاطر على مستقبل الاتحاد واتفاقية شينغن في ظل ازمة اللاجئين التي تجتاح القارة.
وإذا جاء رفع الاحتياطي الفدرالي لمعدل الفائدة بوتيرة أبطأ من توقعات الأسواق، فإن هذا قد يدفع الدولار إلى التراجع أمام اليورو بدلاً من الارتفاع. واشارت صحيفة «الغارديان» في تقرير حديث الى أن البنك المركزي الأوروبي سيبقي سياسة التيسير الكمي على أمل زيادة القروض، إضافة إلى رغبته في خفض قيمة اليورو لدعم الصادرات.
وتشير التقديرات الى ان معدل النمو في اقتصادات اليورو العام الحالي سيكون شبيهاً بعام 2015 اي حوالي 1.5% مستفيداً من انخفاض أسعار النفط، وانخفاض أسعار الفائدة، وضعف العملة الذي يعطي دفعة للصادرات.
الاقتصاد الياباني من جهته سيظل يعاني برغم التحسن الطفيف الذي سيسجله مع تقدير ان يبلغ النمو حوالي 1% وهو اقل بكثير من النمو المتوقع ان تسجله الولايات المتحدة. فالدين العام الكبير ينهش الاقتصاد الياباني، اضافة الى ان ازدياد اعداد المسنين وشيخوخة المجتمع الياباني يؤديان الى تقليص اليد العاملة الشابة، ويحدان من الانتاجية ما يؤثر في النمو. ولمواجهة حالة التباطؤ الاقتصادي وتحفيز النمو يتبع المصرف المركزي الياباني سياسة للتوسع النقدي، ما أنتج تحسنات ولو انها لا تزال محدودة.
شبح تباطؤ الاقتصاد الصيني يخيم على العالم اجمع. مصائب البعض كالعادة فوائد عند البعض الآخر. انهيار اسعار النفط والمعادن والسلع الاساسية اضر بالكثير من الدول وأفاد دول أخرى، لكن الخطوط العامة للاقتصاد العالمي تصب جميعها في الوقت الراهن في بحر الحذر والتشاؤم ومنبعها الاساسي دول الشرق والجنوب…فيما تبدو الولايات المتحدة وكأنها في كوكب آخر