مع مرور الوقت بدأت حملة سلامة الغذاء التي أطلقتها وزارة الصحة بفقدان زخمها. وفي كثير من الأماكن المكتظة، طفت المخالفات على السطح منذرة بفوضى غذائية من جديد، وتحديداً في الأحياء الشعبية والفقيرة.
في قلب طرابلس القديمة، وعلى طول سوق العطارين التراثية، تنتشر بسطات بيع اللحوم المكشوفة، على أنواعها، من لحم ودجاج وأسماك. وعلى حافتي الممر الضيق للسوق، يلفت الانتباه مشهد غير مألوف لعدد كبير من النشاطات البشرية المتداخلة بفوضوية، البائع الذي يسكب الماء على أكوام الدجاج المكدسة، مارة مسرعون تحتك أكتافهم ببعضها البعض وهم يتجنبون عصارة الماء والدم السائل على الارض، بسطات خضار ودكاكين ألبان وأجبان، وأوعية بلاستيكية مليئة باللفت والمخلل، فيما تتنقل الدراجات النارية بين الأحياء، ناشرة دخانها في الأرجاء.
وبحساسية كبيرة يواجه أصحاب المحلات السؤال عن مصدر اللحوم، فيما يسارع مروان صاحب أحد محلات بيع اللحوم في السوق، لإبراز ختم المسلخ على الذبيحة التي يقدمها للزبائن. ويقوم أحد أصحاب محال الحلويات بإحضار النايلون لتغطية حلوياته عند السؤال عن سبب عدم تغطيتها وتركها مكشوفة.
وبرغم وجود هذه الظاهرة من زمن بعيد، وتوسعها، أثمرت حملات التفتيش التي تقوم بها وزارة الصحة وبلدية طرابلس، تحسناً لأوضاع بعض المحال التي تم “تبليطها” وطلاء جدرانها. ويؤكد أبو سعد الذي يمتلك محلاً لبيع الأسماك المثلجة المستوردة من تركيا، أن الأسماك تصله “مباشرة بصناديق فلين مغلقة، وسعة كل منها عشرة كيلوغرامات”. مضيفاً لـ “المدن”، أنه عند عرض الصناديق على “البسطة” يغطيها بالثلج، مؤكداً أن “مراقبي وزارة الصحة قاموا بزيارة السوق مراراً وتكراراً”، وأنه استجاب لـ “ملاحظاتهم” وغطى جدران الحجر الرملي الذي يتكون منه المحل، بالبلاط. ويبالغ أبو سعد في مديح محله بالقول “أتمنى أن تدخل الرقابة السوق كل يوم، فالمراقبة الصحية عندما دخلت المحل سألتني هل هذا محل سمك أم ذهب؟”. وفي المقابل يُقر أن “أكثرية المحال ما زالت غير مطابقة للشروط الصحية ووضع بعضها مقرف”.
ولإستنتاج مواقف المارة من متاجر اللحوم في السوق ما على المرء إلا مراقبة وجوههم وتصرفاتهم، بين من يقف للشراء و”المفاصلة”، وبين من يمضي مسرعاً مغطياً أنفه. ومن بين الزبائن شريحة تجتذبها الأسعار المخفّضة فتسارع للحصول على أربعة كيلوغرامات من الدجاج مقابل 10000 ليرة، أو كيلوغرام من اللحم المفروم بـ 6000 ليرة، ويعوّل البعض في شرائه على فكرة أن الطبخ على حرارة مرتفعة يمكن أي يقتل الجراثيم.
في المقابل هناك من يعتمد في شرائه على “كلمة الثقة” التي يعطيها البائع للزبون، وذلك هو حال السيدة مديحة شرف التي لا تنفي أنها تشتري من “البسطات المكشوفة”، أي غير المغطّاة، متسائلةً “ما هي الضمانة بأن الماء الذي يسكب على الدجاج نظيف؟”. وتضيف لـ “المدن” أنها لا تتأخر عن “ابداء ملاحظاتها” لصاحب المحل الذي تشتري منه عند وجود خلل وتحديداً بالنسبة لـ”براميل البلاستيك التي يوضع فيها الدجاج المذبوح، وكذلك ماكينة إزالة الريش التي لا تنظف بصورة متكررة”. وتتمنى شرف لو أن اللحوم “توضع في برادات شفافة مغلقة تتيح للزبون النظر إليها، وتعزلها عن دخان الدراجات النارية وغبار الطريق والجراثيم”.
الأسواق الأثرية المبنية من الحجر الرملي غير مهيأة لنشاطات الأسواق الحالية، فبيع اللحوم يعتبر نشاطا دخيلا على هذه الأسواق التي كانت تتعاطى تاريخياً بيع العطارة والأعشاب. وعموماً، تخضع سوق العطارين الشعبية لرقابة الدائرة الصحية في بلدية طرابلس وفق ما يؤكد المسؤول المعاون في الدائرة الصحية للبلدية، غسان الشامي، الذي يشير لـ “المدن” إلى قيامه “شخصياً، منذ فترة، بتوجيه إنذارات إلى بعض المحال بوجوب إلتزام أصحابها بالإجراءات المطلوبة”. ويعترف الشامي أنه، وبرغم الإجراءات المفروضة، والرقابة، فإنه و”بالعربي الصريح، سوق العطارين من الصعب ضبطها”، مقترحاً إعادتها إلى ما كانت عليه تاريخياً وحصرها بالعطارة لأنها “غير مؤهلة من ناحية البنية التحتية، لبيع اللحم أو السمك”.
ويوضح الشامي أن “الذبح في المسلخ غير كاف لضمان السلامة الصحية للغذاء، نظراً لضيق ممرات السوق ولعرض اللحوم في الخارج دون تغطية، وإحتكاكها بالنشاطات البشرية المختلفة”. اما وجهة النظر هذه، فتم ابلاغها لرؤساء البلدية المتعاقبين، سواء الرئيس السابق نادر غزال او الحالي عامر الرافعي. ويكشف الشامي أنه إقترح “إقفال هذه المحلات التي استغلت فترة الحرب لتحويل دكاكين العطارة الى ملاحم ومحال للخضار، وأصبحت تشغل الحيز الأكبر من السوق مع مرور الزمن”.
وفيما يتعلق بموقف وزارة الصحة التي سجلت مخالفات عدة في طرابلس مؤخراً، ومن ضمنها إقفال أحد الأفران، فقد أكد لـ “المدن” أحد مندوبيها في الشمال، أن الوزارة “مستمرة في حملة سلامة الغذاء، وهي تقوم بصورة دورية بعمليات التفتيش في كل المناطق، وليس في سوق العطارين حصراً”. ولكن في المقابل، يعترف المندوب الذي فضّل عدم ذكر إسمه، أن “قلة عدد المفتشين يحول دون تغطية كافة المخالفات في الوقت نفسه”.
سوق العطارين ليست حالة فريدة من نوعه، وإنما هي صورة مصغرة عن واقع الأسواق الشعبية في لبنان، والتي يصعب ضبطها، خاصة وانها تمثل مورد رزق بالنسبة لكثير من العائلات، وفي الوقت عينه تمثل سوقاً رخيصة للمواطنين. لكن يبقى الحل الأنسب هو تشديد الرقابة، في ظل عدم وجود بديل أو خطة للتنظيم. وفي هذا السياق، فإن المراقبة الصحية هيام المصطفى تشير لـ “المدن” أنه “إذا كان من الضروري إبقاء الذبيحة لمدة ساعة بعد ذبحها خارج البراد لكي تحافظ على طراوتها، فهذا لا يبيح وضعها في الشارع وتركها تتفاعل مع محيطها، وتحديداً الغازات السامة المنتشرة في الهواء، والأجسام الدقيقة كالبكتيريا والميكروب والفيروسات التي تأتي من المجارير والطرقات والإحتكاك مع المارة”. وحذرت المصطفى من “تأثير ظاهرة انتشار النفايات العشوائية والبعوض والحشرات على أنواعها”. ولفتت الى ان هناك إحتمالا كبيرا لوجود ذبائح “غير مطابقة للمعايير والمواصفات”، في السوق، مطالبةً بالذبح “في أماكن مغلقة لكي لا يتجمع الذباب على اللحم”.