كتب طوني أبي نجم:
لا يمكن لأحد أن يصدّق ولو للحظة أن رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع مقتنع بأن رئيس تكتل “الإصلاح والتغيير” يصلح لرئاسة الجمهورية في لبنان. لا بل إن جميع من يعرف “الحكيم” يدرك أن رأيه في “الجنرال” يستحيل أن يتغيّر نتيجة معرفته العميقة به، على الأقل منذ 15 كانون الثاني 1986، تاريخ تسلمه قيادة “القوات اللبنانية”.
لذلك يصبح السؤال أكثر من مشروع: ما الذي جعل من ترشيح جعجع لعون الى رئاسة الجمهورية أمراً وارداً في أي لحظة، إذا لم نقل إنه بات “أمراً واقعاً”؟!
مما لا شك فيه أن سمير جعجع قدّم كل التضحيات الممكنة طوال أكثر من 10 سنوات في سبيل 14 آذار ووحدتها وصلابتها. تنازل في كل المرات، غضّ النظر عن الكثير من الممارسات المسيئة إليه والمجحفة بحق “القوات اللبنانية”، وتحمّل من الممارسات ما لم يتحمّله “أيوب”… وكل ذلك تحت الشعار الشهير الذي كان جعجع في كل مرّة يقنع جمهوره به: “نحن أمّ الصبي”.
لكنّ الرئيس سعد الحريري استمرّ في ارتكاب الأخطاء، لا بل “الخطايا”، منذ العام 2005، بدءًا من الاستهتار بحجم “القوات اللبنانية” في التشكيلات الحكومية، وفي التعيينات على مختلف المستويات (يذكر المتابعون على سبيل المثال المعركة العنيفة التي خاضها جعجع مع تيار المستقبل من أجل تعيين العميد بهيج وطفا قائداً لمنطقة جبل لبنان في قوى الأمن الداخلي في حين كان يصرّ المستقبل على تعيين العميد صلاح جبران).
وصلت الأمور الى 7 أيار 2008. دعم جعجع حلفاءه الى أقصى حدّ. خرق الحصار الأمني لـ”حزب الله” حول السراي حين كاد الرئيس فؤاد السنيورة ينهار. وقرّر أن يفكّ الحصار عن قصر قريطم لولا تمنيات سعد الحريري بعدم الإقدام على ذلك.
كيف ردّ الحريري الجميل؟ في انتخابات حزيران الـ2009، رفض الحريري بشكل مطلق ترشيح “القوات اللبنانية” العميد وهبي قاطيشه في عكار. “اخترع” مدير مدرسة اسمه نضال طعمه ورشّحه على اللائحة لكي لا يأخذ مرشحاً قواتياً. وفعل المستحيل أيضا في الدائرة الأولى في بيروت ليضع العصي في ترشيح القواتي ريشار قيومجيان ويُبقي على سيرج طورسركيسيان. كان القريبون من الحريري يهمسون في أذنه: “حذارِ أن يكبر حجم جعجع”!
طوى جعجع صفحة انتخابات الـ2009 على زغل، وعلى معادلة من بندين: “لن نقبل بعد اليوم بأي انتخابات على أساس قانون الستين، ولن نقبل بالتحالف مع سعد الحريري إلا بشروطنا وإلا فليخض كل منا أي انتخابات مقبلة بتحالفات مستقلة”.
في 2 آب 2009 انسحب وليد جنبلاط من تحالف 14 آذار ليرتب علاقته بـ”حزب الله” ومن ثم ببشار الأسد. تفهّمه الحريري ولم يخاصمه! حُشر بعدها الحريري بمفاوضات الـ”س- س”. تفهّم سمير جعجع الوضع بعد كلّف الحريري الثنائي فارس سعيد وسمير فرنجية بشرحه لـ”الحكيم”. لم يتردّد لثانية رغم عدم اقتناعه بجدوى ما يحصل. زار جعجع الحريري في بيت الوسط وأعلن أن “14 آذار تدعم سعد الحريري وتتفهم ضرورة زيارته الى دمشق”.
لكنّ الحريري أكمل بالأداء نفسه: عند “الحزّات” يستنجد بـ”القوات”، وعند تشكيل الحكومات وإجراء التعيينات يتفاوض مع ميشال عون! سعد الحريري يذهب في الـ2010 لتمضية نهار عائلي في بنشعي في ضيافة سليمان فرنجية من دون أي تنسيق مع سمير جعجع أو حتى من دون زيارة ولو شكلية لمنزل الرئيس رينه معوّض في زغرتا، في حين أن “الحكيم” كان يتفادى أي دخول الى الشارع السني من خارج بوابة الحريري احتراماً لحليفه!
بين الـ2011 ومطلع الـ2012 أجرى سمير جعجع 18 لقاءً مع الرئيس فؤاد السنيورة للبحث في قانون للانتخابات يؤمن صحة التمثيل وأكثرية كافية لتمريره في مجلس النواب. بعد 18 جلسة خرج جعجع بانطباع يتيم وهو أن “المستقبل” يريد الإبقاء على قانون الستين مهما كان الثمن! فما كان من قائد “القوات” إلا أن قام بمناورة خطرة بتأييد القانون الأرثوذكسي، ما أرغم “المستقبل” و”الاشتراكي” الى التفاوض الجدي حول قانون للانتخابات فوُلد القانون المختلط الذي تأمنت له أكثرية نظرية.
في المقابل، وفي أخطر الملفات، ملف الانتخابات الرئاسية، لم يتردّد الحريري في فتح خطوط مع “الجنرال” بشكل سرّي جداً، والتقاه في باريس في مسعى لتأييد وصوله الى قصر بعبدا. وعندما سأله جعجع عن الموضوع كذب الحريري ونفى حصول اللقاء، قبل أن يكشف عون شخصياً تفاصيله. لكنّ وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل وضع الفيتو السعودي على عون فسقط مسعى الحريري!
في 18 شباط 2015 عاود الحريري سياسة القنوات المفتوحة مع عون، وكان لقاء بيت الوسط حيث عرض الحريري على عون صفقة التعيينات الأمنية: “شامل روكز قائداً للجيش مقابل عماد عثمان مديراً عاماً لقوى الأمن الداخلي”. مرّة جديدة تجاوز الحريري حلفاءه المسيحيين في ملف تعيين قائد الجيش الماروني وسعى الى “صفقة” مع عون!
هكذا وصل الحريري الى “الخطيئة الكبرى”. أكثر من 6 أشهر من المفاوضات من “تحت الطاولة” مع النائب سليمان فرنجية لإيصال “أخ بشار الأسد” الى قصر بعبدا… ولم يكتفِ الحريري بطبخ المبادرة، بل سعى الى تسويقها على كل المستويات الدولية والإقليمية والداخلية!
طوال سنتين لم ينسّق سعد الحريري مع سمير جعجع في الاستحقاق الرئاسي. أعلن تأييد “الحكيم” في ترشّحه للرئاسة من دون أن يقوم بأي خطوة فعلية لتسويقه، ولكنه في المقابل كان يبحث في صفوف 8 آذار عن مرشح يعيده الى السراي.
يوم قرّر سعد الحريري المشاركة في حكومة واحدة مع “حزب الله” بعد اغتيال محمد شطح، تفاجأ سمير جعجع لكنّه “تفهّم” تحت شعار الحاجة الى حكومة تدير الفراغ في غياب رئيس للجمهورية. لكنه شعر بـ”أمر مريب” يوم قرّر الحريري الذهاب الى حوار ثنائي مع “حزب الله”. وبالمنطق نفسه، منطق إراحة الساحات الداخلية، ذهب جعجع الى حوار شفّاف وعلني مع “التيار الوطني الحر” أنتج ورقة “إعلان النوايا” التي التزم فيها عون باتفاق “الطائف”.
لكن يوم انكشفت صفقة الحريري- فرنجية أيقن جعجع أن حليفه مصرّ على سياسة “الطعن في الظهر”. أسقط الحريري بترشيحه فرنجية أي إمكانية لوصول مرشح من 14 آذار الى الرئاسة أو حتى وصول أي مرشح وسطي أو توافقي، تماماً كما أسقط الحريري ما تبقى من الثقة بينه وبين جعجع.
هكذا بات “الحكيم” أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يرضخ لترشيح سليمان فرنجية فينهي أحلام 10 سنوات من النضال والشهداء لقوى 14 آذار، من خلال استعادة مقيتة لترويكا قديمة عنوانها الجديد “فرنجية- بري- الحريري”، وإما أن يقلب الطاولة على هذه الصفقة، فيقدم على القيام بالخطوة الأصعب: عقد الحد الأدنى من الاتفاق الممكن مع ميشال عون وإعلان ترشيحه لرئاسة الجمهورية على قاعدة حكم تمنع محاولات استنساخ الماضي البغيض. هكذا يكون جعجع طوى صفحات الخلاف المسيحي الأليم الى غير رجعة، وبرهن أنه لا يزال يملك أوراقاً تقلب المعادلات في وجه كل من يطعنه. والعارفون بطبيعة سمير جعجع يؤكدون أن ترشيحه لعون لن يكون شكلياً على الإطلاق، وأن “الحكيم” لن يقبل ببذل جهود لإيصال عون أقل مما بذل ويبذل الحريري لإيصال فرنجية. فهل تعبّد “خطايا” الحريري طريق بعبدا أمام العماد ميشال عون في الـ2016؟