عندما حذّر بعض الخبراء البيئيين وبعض المصادر الصحافية من إمكانية ترحيل النفايات الى إفريقيا، حتى قبل الطرح الجدي للترحيل، وقبل وضع الشعب اللبناني أمام خيار الترحيل كحل نهائي ووحيد، رفض القيمون على وضع حل لأزمة النفايات، وأولهم لجنة وزير الزراعة أكرم شهيب، فكرة الترحيل الى افريقيا، والتي كانت ولا تزال تمثّل “فضيحة” لهذه اللجنة، على صعيد خاص، وفضيحة للطبقة السياسية المتمثلة بالحكومة مجتمعة، على صعيد عام.
النفي واستغراب الحديث عن افريقيا، وإيهام الناس بأنّ الحل سيكون بالترحيل الى أوروبا، سرعان ما إكتُشف، بعد ظهور “بيان” من دولة سيراليون الأفريقية، تنفي فيه “نيتها استقبال نفايات من لبنان”، معتبرة ان ما يحصل “صفقة” هي “على دراية تامة” بخطورتها. وأوضح البيان ان حكومة سيراليون “لم توافق على إستيراد النفايات من لبنان، وأنها لم تأذن لأي مسؤول حكومي بنقل أي موافقة في هذا الخصوص”. وأضاف ان رئيس البلاد “أصدر تعليماته لمكتب الأمن الوطني وشرطة سيراليون بفتح تحقيق جنائي حول الظروف المحيطة بهذه المسألة”. ويؤيد الغموض الذي يلف هوية الشركات التي قيل انها تقدمت لمناقصة إستيراد النفايات، ان في الأمر عقدة ما. اما الشركتان الهولندية والإنكليزية، فبدأت الشكوك تدور حولهما، خاصة وانهما الوحيدتان اللتان “إستوفتا” شروط التعاقد، بعد الحديث في ما مضى عن 7 شركات ستتقدم للمناقصة. وتتحدث بعض المصادر الصحافية عن “إختفاء” الشركة الهولندية، ما يثير الغرابة أكثر فأكثر. وكان شهيب قد أكد بنفسه وجود شوائب في عملية الترحيل، من خلال رفضه الإفصاح عن وجهة ترحيل النفايات.
الترحيل أصبح واقعاً، وانتقلت السلطة السياسية الى دعم قرارها بإظهار ان الترحيل هو نقطة الانطلاق الأساسية للبدء بعملية الحل النهائي للأزمة. وقد يكون الترحيل هو أحد الحلول الصحيحة إذا ما تم وفق قاعدة علمية مدروسة، لكن ما يرتبط بالعملية الحالية من غموض وتحاصص، يجعل علامات الاستفهام، وصولاً الى رفض الخيار، أمراً مشروعاً. فإذا لم تتبنَّ الحكومة اللبنانية خيار الترحيل الى إفريقيا وتحديداً الى سيراليون، فلماذا أعلنت سيراليون رفض إستقبالها لنفايات لبنان؟ إلا إذا كان الرفض من باب الإستباق، وهو أمر مستبعد، لأن العلاقات بين الدول لا تُبنى على قاعدة إطلاق بيانات إستباقية على مستوى رئاسي أو حكومي.
السكوت أحياناً يكون علامة رضى، وسكوت الحكومة يشي بأن ما كشفته سيراليون حقيقي، أو بالحد الأدنى نواة لفضيحة حقيقية تُطبخ على نارٍ هادئة. لكن البيان السيراليوني يحمل على التفكير حول ما إذا كان هناك دور لبناني في إفتضاح الأمر، إن على مستوى الجالية اللبنانية في سيراليون، أو على المستوى السياسي اللبناني الداخلي. في الحالة الأولى، يمكن تمرير المسألة على أنها جزء من حراك مدني عابر للحدود اللبنانية، يأخذ في الإعتبار أن ترحيل النفايات الى افريقيا لن يحل الأزمة في لبنان، لا بل سيراكمها لمصلحة الطبقة السياسية. اما الحالة الثانية، فتظهر الخلافات الداخلية على الإستفادة من الترحيل، وبالتالي، فإن طرفاً سياسياً لم يجد لنفسه مكاناً في صفقة الترحيل، فقرر البدء بإرسال مؤشرات لنظرائه، بأنه يريد حصته، وإلاّ فالطاولة ستُقلب على الجميع. لكن التأكيد الرسمي لِما صدر عن سيراليون لم يأتِ بعد، فوزارة الخارجية اللبنانية “لم تتلقَّ كتاباً رسمياً من سيراليون”، وفق ما تؤكده لـ “المدن”، نانا فيصل، مستشارة وزير الخارجية جبران باسيل. ما يعني ان لبنان الرسمي لا يعرف شيئاً عمّا تقوله سيراليون، لكن ذلك يستدعي فتح تحقيق لبناني بما جرى، وهذا التحقيق لم يحصل بعد.
الشركات التي هُلّل لها على انها شركات الخلاص من أزمة النفايات بإتجاه أوروبا، إهتزت الثقة بها. و إهتزّت الثقة من الجانب الإفريقي، حتى قبل الإعلان رسمياً عن الوجهة الإفريقية. فهل يكون ذلك مؤشراً لعودة الحل الى الأراضي اللبنانية والتخلي عن فكرة الترحيل؟
هذا الحل ليس مستبعداً، لأن الحديث عن أهمية المحارق لم ينقطع أبداً. والوزراء والنواب يتغنون بالمحارق الموجودة في أوروبا، وفي قلب العواصم الأوروبية تحديداً، ومنها على وجه الخصوص باريس. لكن العودة الى الداخل، يستدعي إعادة فتح أبواب التحاصص على المحارق وعلى أماكن تركيبها… والى ما هنالك من نقاط خلافية ضاق بها المواطن اللبناني ذرعاً.