Site icon IMLebanon

تبعية غذائية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

FoodVegetablesMarket
برنارد ماركس

تُعتَبرُ مِنطَقة شمالِ إفريقيا والشرقِ الأوسَطِ المِنطَقةَ الأكثرَ تَبعِيَّةً في العالمِ فيما يَتعلَّقُ بالغِذاء. فأكثرُ من 40 % من حاجتِها يأتي من الأسواقِ العالمِيَّة. في أفقِ 2050، قد تزدادُ هذه التبعِيَّة خُطورةً، لا سِيّما بحُكمِ التغَيُّراتِ البيئيَّة. وباتَت الهشاشة ُهذه من المخاطِرِ الكبرى التي تَتعرَّضُ لها مِنطقةٌ لا تَخلو أَساساً من المخاطِر. وقد وصلَت سياساتُ دعمِ الحكومات أسعارِ الموادِّ الاستِهلاكِيَّةِ الأساسِيَّةِ إلى حدودِها المالِيَّةِ القُصوى. يُذكِّر سيباستيان أبيس، الأمينُ العامُّ للمركِز الدوليِّ للدراساتِ الزراعِيَّةِ المتوسِّطِيَّةِ أنَّ ما يعادلُ 40 مليارَ دولارٍ قد خصصت لدعمِ المَوادِّ الغذائيَّةِ في المِنطَقةِ في عام 2012. وفي مصر، يُخصَّصُ لهذهِ الغايةِ ما يزيدُ عن الـ 3%. تساهِمُ دراسةٌ مُهِمَّةٌ أجرَتها مؤسَّسَةُ فرنسِيَّة لحسابِ جمعِيَّة Pluriagri، وهي تتكوَّن من فاعلين في الزراعات الكبرى والبنك الزراعي للقيام بدراسات مستقبلية بخصوص الأسواق أو السياسيات العامة في توضيحِ التحَدِّيات. وُنشرَت، في بدايةِ عام 2015، دراسةٌ استِعادِيَّة تُغَطّي الفترةَ ما بينَ 1961 و2011، وتلَتْها في أكتوبر/ تشرين أول، دراسةٌ ثانِيةٌ مستقبَلِيَّةٌ تَستَكشِفُ المساراتِ الفاعِلةَ في أُفُقِ 2050، وإمكاناتِ الحدِّ من تَبَعيَّة المِنطَقةِ للإيراداتِ الغِذائيَّة.

طلبٌ مرتفعٌ وإنتاجٌ مَحلّيٌّ مُقصِّر

فيما يخصُّ الطلبَ على الأغذِيةِ، تزامَنَ ازديادُ عددِ السكَّان مع تحسُّنٍ مَلموسِ للأنظِمةِ الغِذائيَّةِ بين 1961 و2011. وقد ساهَمَ النمُوُّ الاقتِصاديُّ، وسياسات الحِفاظ على أسعارٍ مُنخفِضةٍ للمُنتَجاتِ الاستِهلاكِيَّةِ، إلى تقارُبِ مُستوى الأنظِمةِ مع المستَوَياتِ الأوروبِيَّة. فتزايَدَ استهلاكُ الزيوتُ النباتِيَّة والسكَّر، ولم يكُنْ ذلكَ نحوَ الأفضَل (ارتفاعٌ ملموسٌ للأمراضِ المرتَبِطةِ بازدِيادِ تلكَ المواد)، إلّا أنَّ النظامَ الغذائيَّ لتلكَ المِنطَقةِ حافظَ على ميِّزاتِه الخاصَّة به، كأهمِّيَّةِ الحبوبِ، لاسيَّما القمحَ، وقلَّةِ الطلبِ على المُنتَجاتِ الحيوانِيَّة. ومع ذلك، تنخفِضُ نسبةُ الألبانِ لحسابِ اللحمِ والدجاجِ والبيض. في المُجمل، ارتفَع الطلبُ على المنتَجات الزراعيَّة بنسبةِ ستَّةِ أضعافٍ في نصفِ قَرن.
لم يتمكَّن الإنتاجُ من اللِّحاقِ بالطلب، على الرغمِ من ارتِفاعِه المُذهِل، فقد ارتَفعَ الإنتاجُ المحلِّيُّ بنسبةِ خمسةِ أضعاف، مَا يعني 50% من الإنتاجِ للفردِ، مواكِباً بذلكَ عموماً حجمَ الطلب. وتكيَّفَ التطوُّرُ البنيَوِيُّ مع تطوُّرِ الطلَب. ويشيرُ هذا التطوُّر، حسبِ دراسات باحثين في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في المجال الزراعي (INRA)، إلى “انحِسارِ نمطِ الحياةِ التقليديِّ الرعَوِيِّ في المِنطَقة”. أما الإنتاجُ النباتيُّ، فقد ارتَفعَ بنسبةِ أربعةِ أضعاف، وليسَ قادراً على تدارُكِ الطلب، لا من ناحيةِ الحجم، ولا بُنيَوِيّاً، فإنتاجُ الفاكِهةِ والخُضارِ المَدعومةِ بالسياساتِ الحكومِيَّة يستهدِفُ تلبِيّةَ طلبِ السوقِ الخارجي.

يمكنُ أن نعزُوَ محدودِيَّةَ أداءِ مُزارِعي المِنطَقةِ، أوّلاً، إلى الضغطِ على المواردِ الطبيعِيَّة، فالمِنطَقة تُعاني من الجَفاف، كما أنَّ المساحاتِ الصالِحةَ للزراعةِ نادِرةٌ، وكذلِك المياه. فمِن أصلِ 1300 مليونَ هكتارٍ، أي مساحةِ المِنطقَة الإجمالِيَّة، يتبيَّنُ أنَّ ما يعادلُ 84 مليون هكتاراً من هذه الأراضي مزروعٌ عملِياً، وهي مساحةٌ أكبرُ من الأراضي التي تُعتبَر صالحةً للزراعةِ. إذ إنَّ الأراضي المَهيَّأة بأنظمةٍ للرَّيِّ تَضاعفَت (من 15 إلى 30 %)، إلّا أنَّ المنافسةَ على أشدِّها مع الحاجاتِ الصناعية والمدينيَّة. وغالباً ما يكونُ قد تمَّ استخدامُ ما يقاربُ 80% منَ المياهِ الجَوفيَّة.
ولربَّما أنَّ الوضعَ أسوأُ حالاً في بعضِ الأحيان. تُذكِّرُ الدراسةُ بتجرِبةِ المَملكَةِ العربِيَّةِ السعودِيَّةِ والإماراتِ العربِيَّة المتَّحِدَة، إذ أقدَمَت الدَّولَتان، بفضلِ إيرادات النفطِ في عقدي الثمانينات والتسعينات، بتمويلِ برامجَ زراعِيَّةٍ جاهِزةٍ تَرويها المياهُ الجَوفِيَّة، إلا أنَّهُما عدَلَتا عن تلكَ المشاريعِ “بحُكمِ تقليصِ الميزانيّاتِ ومُنافسةِ المدنِ وعلى الموارِدِ الطبيعِيَّة”. وللسياساتِ الزراعِيَّة، لا سيَّما في مجالِ الاستِثمارِ، دورٌ في هذا الفشَل، فالصناعاتُ الغذائيَّة بقيت مُهمَّشة، تقتصِرُ على مؤسَّساتٍ صغيرةٍ تكتَفي بعملِيّاتِ التحويلِ الأوَّلِيَّة، والاستِثماراتُ فيها ضئيلةٌ جدّاً.

ازديادُ التبعِيّة

ارتفعَت التبعِيَّة الغذائيَّة للمِنطَقةِ من 10% إلى 40% خلالَ خمسينَ سنة. وباتت أحدَ أكبرَ مستوردي الحبوبِ في العالم. ارتفَعت استيراداتُ الحبوبِ من 5 ملايين إلى 44 مليون طنّاً، وكذلك حالُ المُنتَجاتِ الرئيسيَّةِ في الأنظِمةِ الغذائيَّة، فاستيرادُ السكَّرِ ازدادَ بنسبةِ 15 ضعفاً، وازدادَت مُنتَجات البذورِ الزيتِيَّةِ بنسبةِ 30 ضعفاً، فالمِنطقةُ تستنفِذ ثُلثَ مُشتَرَياتِ العالم من القمح، وأضحَت مَحطَّ أنظارِ كلِّ البلدان المصدِّرة للموادِّ الغذائيَّة التي تنظر إلى إنفاقِ فائضِها من الإنتاج. ولحِقَت البرازيلُ وبلدانُ البحرِ الأسود (روسيا، أوكرانيا، رومانيا) برُكابِ الولايات المتَّحِدة، والاتِّحادِ الأوروبّي وأستراليا. من جهةِ البلدان الشارِيَة، يتصرَّفُ كلٌّ بلدٍ بمُفرَدِه. أما فرضِيَّةَ منظَّمَةٍ تُهيِّئُ لعملِيَّاتِ شَراءٍ تَعاوُنِيٍّ بحكمِ كمِّيّاتِ المُشتَرياتِ الجَماعِية ، فتبدو فرضِيَّةً “غريبةً” (سيباستيان آبيس). تحاوِلُ بعضُ دولِ الخليجِ (السعوديَّة، الإماراتُ، وقطر) تطويرَ استراتيجيَّة للضغط ِ نحوَ تأسيسِ مَراكزَ لوجيستية للزراعةِ الغذائيَّةِ في المِنطَقة.

سُعرةٌ حرارِيَّةٌ من أصلِ سُعرتين

تذهبُ الدراسةُ إلى أبعدَ من القواسِم الجامِعة، وتشيرُ إلى مُفارَقاتٍ كبيرةٍ بينَ الأقاليمِ والدول. تشكِّلُ تركيا استثناءً في هذا الصددِ، إن فيما يتعلَّقُ بإنتاجِها الزراعي أم بصناعتِها الغذائيَّة. كما أنَّ تبعيَّتِها الغذائيَّةُ الإجمالِيَّة، وهي أدنى بأربعَ مرّاتٍ من المُعدَّل، لم ترتفِع. وتؤمِّنُ اكتفاءَها الذاتي فيما يخصُّ منتَجات عَديدة. تورِّد تركيا جزءاً لا يُستَهانُ به من انتاجِها. على أنَّ باحِثين يلاحِظون أنَّ “قوّة الاقتِصاد الزراعيِّ التركي، والذي تعودُ إلى سياسةِ تكثيفِ الزراعةِ منذ الخمسينات”، بدأَت تعطي إشاراتِ ضُعف.

وعلى خلافِ ذلك، فبلدانُ المتوسِّط الأخرى، والتي تعاني أيضاً من تبعِيَّة مقدَّرة بـ 10%، تستورِد سُعرةً حرارِيَّةً من أصلِ سُعرتين. فلا زالَت إنتاجِيَّةُ العملِ الزراعيِّ محدودة، لا سيَّما في المَغرب (إلا أنَّها تضاعفَت في مصرَ بنسبةِ ثلاثة أضعاف)، فمُعَدّات الريِّ ضعيفةٌ، إلّا فيما يتعلَّقُ بالزراعةِ المُكثَّفة المخَصَّصةِ بمعظمِها للتصدير. وتتعرَّضُ شبكاتُ الرَّيِّ للتبذيرِ وخسائرَ مهمة، بسببِ النقصِ في التجهيزاتِ وصيانةِ الشبكاتِ ووسائلِ المُحافظةِ عليها، والوسائلِ اللوجستية، كما أنَّ التحويلَ الصناعيَّ ضعيفٌ جدّاً.

إلّا أنَّ عددَ سكّان الريفِ لا يَزالُ مُرتفِعاً، بحكمِ ضعفِ إمكانِيَّات العمل الإجمالِيّة في المجالات الأخرى. ويشرحُ باحثو الـ INRA أنَّ “العملَ في الزراعة، بالنسبة للأجيال الجديدة، يغدو وضعاً مِهَنِيّاً مُكرَهٌ عليه صاحبُه، فلا يتشجَّعُ المزارعون على التجديدِ وتحديثِ الإنتاج الزراعي”. وتشكِّل الحلقةُ السلبِيَّةُ هذه أهمَّ أسبابِ الفقر، كما أنَّها تزيدُ من تفاوُتِ في الدخلِ بين سُكّانِ المدنِ وسُكَّانِ الأرياف.

رُؤيَةٌ مُستقبلِيَّة مُخيفةٌ مُثيرةٌ للقلَق

انطِلاقاً من تلكَ الدراسةِ الاستعادِيَّة، حاولَ الباحثون أن يستَكشِفوا التوجُّهات التي ستميلُ نحوَها الأمورُ في حلولِ 2050. تشيرُ الدراساتُ أنَّ التبعِيَّة تجاهَ الاستيرادات ستزداد، لا سيَّما إذا احتدَّت تأثيراتُ التغييرَ المناخي. فيما يخصُّ الطلب، اعتمَدت التوقُعاتُ على الفرضِيَّة البسيطة، ألا وهي مُواصلةُ الميلِ السابقِ للأنظِمةِ الغذائية، علماً أن عددَ السكّانِ سيزدادُ بنسبةِ 50% تقريباً. من ناحيةِ العَرض، قد تأتي الإجابةُ من زيادةِ الإنتاجية، من توسُّعِ المساحات المَزروعة، أو برفعِ التبعيَّة. إذا لم تتحسَّن الإنتاجية، يفترِضُ استقرارُ التبعيَّة أن تزدادَ الأراضي المزروعةُ بنسبةِ 71% مع حلول العام 2050، وذلك طبعاً مُستحيل. تدلُّ التوجُّهات المُتعلِّقةُ بالإنتاجِيَّة على وطأةِ عاملِ التغيير المَناخي، حتى ولو أتى التغيُّر المناخيُّ مُعتدِلاً، فليسَ من المتوقَّع أن يحولَ ارتفاعُ الإنتاجية دونَ ازديادِ التبَعِيَّة الإجمالِيَّة، مع فروق هنا وهناك، ففي المغربِ، مثلا، قد تفوقُ سرعةُ الإنتاجِ الارتفاعَ في الطلب. وعلى خلافِ ذلك، منَ المتوقَّع أن يعاني المغربُ والشرق الأوسط من حدَّة التغيُّرات المناخِيَّة. في سيناريو كهذا، ستزدادُ التبعِيَّةُ بنسبة 70%مع حلولِ العام 2050 في المغربِ والشرقِ الأدنى والأوسط.

تشيرُ الدراسةً المستقبلِيَّةُ إلى أزمةٍ في الإنتاجِيَّة الزراعية، ففي تصوُّرٍ لسيناريوٍ مؤاتٍ للتغيُّر المناخي، وباستثناءِ تركيا، ستستمِرُّ الإنتاجية بالركود، وستنخفِضِ إن كانَ السيناريو المناخيُّ غيرَ مؤاتٍ. ويحذِّر الباحثون: “تشيرُ هذه النتائجُ بوضوحٍ إلى احتِمالِ استمرارِ الفقر، لا بَل إلى احتِمالِ ازديادِهِ (النسبِيِّ أو المُطلَق) في مُعظَمِ أريافِ المِنطَقة”.
تَركِّزُ الدِّراسةُ على ثلاثة رافعات مُمكِنةٍ لقلبِ تلك التوَجُّهات: التوجُّهُ التِّقَنِيُّ لزيادةِ المردودِ، وتحسينِ الأنظمةِ الغذائيَّة، والحدِّ من التبذيرِ على طولِ السلسلةِ من الإنتاجِ إلى الاستِهلاك. إنْ أُخِذَت كلٌّ من هذه الرافِعات على حدةٍ، سيكون لكلِّ منهُما تأثيرٌ إيجابِيٌّ. وإن تمَّ دمجُها، مِمّا يفترِضُ بطبيعةِ الحالِ سياساتٍ عامّةٍ طموحةٍ، واستثماراتٍ مُكلِفة، سيتَضاعفُ هذا التأثيرُ بطبيعةِ الحال، إلّا أنَّ كلَّ تلكَ الإجراءاتِ ستضمحِلُّ، إن تسارعَ التغيُّر المَناخي. لذلك، تشير الدراسةَ إلى أنَّ “الرافِعةَ الأساسِيَّةَ للحدِّ من التبعِيَّةِ الغذائيّةِ هي العملُ على الحدِّ من هذا التغيُّر العامّ، وهو هَدفٌ لا يمكنُ تحقيقُه إلّا باتفاقِيّاتٍ دولِيَّة، وسياساتٍ مَناخِيَّةٍ مشدَّدة”. وهذا ما يتناقَضُ، بطبيعةِ الحالِ، مع سياساتِ التنميةِ السائدةِ في المِنطَقة والمُعتمِدةِ على استِخراجِ النفطِ والغاز، ما يشكِّل عائقاً رئيسيّاً، وهذا ما تبيَّن من خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتغييرات المناخية الأخير.