سنوات من انخفاض الأسعار أضرت بالاقتصاد، ولكن ماذا عن الناس الذين ترعرعوا دون أن يعلموا أن هناك شيئا يختلف عما وجدوا أنفسهم عليه؟
بعض الشباب الذين بلغوا العشرين من العمر، هم محل تساؤل عن الضرر الذي أصاب طموحاتهم نتيجة عقدين من الانكماش، وضعف نمو الأجور وانخفاض الأمن الوظيفي.
مع وجود ضريح ميجي جينجو الرائع وراءهم، وهم يرتدون أقمشة كيمونو المطرزة التي تعكس أشعة الشمس، ومراسم بلوغهم سن الرشد على وشك أن تبدأ في حي شيبويا طوكيو، عقد سبعة أصدقاء يابانيون اجتماعا عاجلا والهواتف المحمولة بين أيديهم.
تتحرك الأصابع بشكل غير واضح على النحو الذي يحثهم فيه الموظفون على الإسراع في الدخول. مواقع الادخار المتنافسة تومض عبر الشاشات. إحدى المجموعات تصرخ بانتصار: إذا وصلوا جميعا إلى المطعم بحلول الثالثة عصرا ومعهم الكوبونات الصحيحة، فإنهم سيوفرون مجتمعين 1220 ينا (10 دولارات) من فاتورة الحفلة التي تأتي بعد الاحتفال. اتفقوا واندفعوا إلى القاعة.
يمكن لكل شخص الاسترخاء الآن، كما يوضح أحد أفراد المجموعة، لأن المبلغ تم ادخاره. هذا الجيل من الأطفال الذين تراوح أعمارهم حول 20 عاماً، والذين يحتفلون ببلوغهم سن الرشد في أنحاء البلاد، هم أول من عاش حياة كاملة في اقتصاد يتسم بحالة واسعة من الانكماش.
إنهم يفكرون في أمور بسيطة. يثقون ولكن بحذر. يرون المستقبل على أنه سلسلة من حالات الطوارئ التي تستنزف النقدية. تقول أياكو إيمايدا، وهي طالبة في طوكيو: “شهِد آباؤنا في الثمانينيات الفقاعة، ونحن لدينا الانكماش. أصيبوا قليلا بالاندفاع. نحن عمليون ببرود”. وتضيف: “كل جيل تغيرت طريقته في التفكير تغيرا عميقا بسبب الاقتصاد”.
مهما كان السرد الاجتماعي للحفل، فقد تأثر سلبا بسبب عقدين من الضعف في الزيادات في الأجور وانخفاض الأمن الوظيفي والاستهلاك الضعيف، وذلك وفقا لما يقوله هيروشي إيشيدا، وهو أستاذ في جامعة طوكيو.
ويقول إن العوامل الاقتصادية جردت الشباب الياباني من الحوافز التي تدفعهم إلى مغادرة البلاد، وشراء السيارات والزواج وإنجاب الأطفال، والمجازفة بل عموما للنمو. إلى حد ما ينطبق الشيء نفسه على أجزاء أخرى من العالم المتقدم، لكن في اليابان هذه الظاهرة المعروفة باسم برنامج آبي الاقتصادي، تعد سلبية بصورة خاصة لإصلاحات النمو، ولحلم القيادة اليابانية لإعداد الأمة نحو عصر ريادة الأعمال والابتكار والاستثمار في الأسهم.
ظاهرة مدى الحياة
يوم بلوغ سن الرشد، الذي يعد عطلة رسمية، يقام في يوم الإثنين الثاني من كل شهر كانون الثاني (يناير) سنوياً، ويثير تأملا وطنيا وقلقا ديموغرافيا.
هذا اليوم، المعروف في اللغة اليابانية باسم سيجن شيكي، هو احتفال لهؤلاء الشباب اليابانيين الذين، على مدى الأشهر الـ 12 الماضية، بلغوا سن الـ 20 ــ السن التي يحق لهم فيها التصويت، والتدخين، وتناول المشروب. بفضل انخفاض معدلات الولادة، هناك عدد أقل منهم كل سنة، وعدد سكان أكبر من أي وقت مضى من المتقاعدين، يجب على هؤلاء الشباب الإنفاق عليهم.
المحتفلون هذا العام، الذين ولدوا في عام 1995 وعام 1996، هم أول من قضوا رحلتهم برمتها إلى مرحلة البلوغ، في اقتصاد يتسم في معظمه بانخفاض أسعار المواد الاستهلاكية.
هذه الظاهرة تضرب بجذور عميقة في حياتهم إلى درجة ظاهرة، وأن عددا منهم يقول إن الانكماش إحدى العقبات الرئيسة أمام النمو خلال العقد الأول من القرن الحالي، قد تطور إلى مصدر للخوف يشمل جميع جوانب الحياة، وعلى نحو يحد من الطموح.
يقول تاكويا أوكوياما، وهو مهندس انضم إلى “هيتاشي” في عام 2013: “كان هذا هو المعيار السائد طيلة الفترة التي أذكرها”. ويضيف: “حتى لو كان هناك تأثير سلبي للانكماش، لن أكون قادرا على إدراكه، لأنه لا يوجد لدي شيء لمقارنته به”. هذا لا يعني أن جيل الانكماش يرى نهاية في الأفق. حتى في الوقت الحالي ــ حيث إن الأرقام في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، كانت تدل على ارتفاع الأسعار عموما بنسبة 0.3 في المائة على أساس سنوي، وبنك اليابان يواصل استهداف تضخم بنسبة 2 في المائة، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي يعلن أن اليابان “لم تعد في فترة انكماش” ــ كان الشباب ليسوا مقتنعين.
وكما يقول الأكاديميون، بدأت الأسعار في اليابان في التراجع في الوقت الذي ولد فيه الأشخاص الذين بلغوا من العمر 20 سنة في عام 2016، والمحاولات الفاشلة لسحب اليابان من الانكماش قد تسربت إلى نفوسهم. هذه الظاهرة لم تعمل فقط على تراجع الإيمان القوي الذي يثري قوى الاقتصاد، لكنه ترك هذا الجيل على علم بشدة أن قادتهم لا يعلمون كل شيء وليسوا قادرين على كل شيء. كما يقول يوسوكي هامادا، من الحضور الموجودين في الحفل: “كان والداي يعتقدان أن الحكومة ستجعل حياتهما جيدة، وقد أصبحا بالفعل أكثر ثراء. الدرس الذي تعلمناه هو أننا بحاجة للادخار بقدر ما نستطيع، وتقليل المجازفة إلى أقل قدر ممكن”. الصعوبة الحرجة التي تواجه آبي وبنك اليابان، وفقا للأكاديميين، هي أنه فيما يتعلق بالتضخم فقد تورطوا في شكل من أشكال الحرب النفسية مع الجمهور. إنهم في حاجة إلى إقناع الناس بأن الأسعار والأجور في الواقع ترتفع لإعطاء ذلك التأكيد لأي نوع من الاستدامة. لسوء الحظ، كما تقول نوزومي هاسيجاوا، وهي طالبة من طوكيو، فإن جيل الانكماش هو جمهور لا يقتنع بسهولة.
وتضيف قائلة: “فئتي العمرية عاشت طيلة حياتها مع الأخبار الاقتصادية السيئة فقط. كما أن مجرد أن يقولوا شيئا ما، هذا لا يكفي. لقد رأينا الحكومات اليابانية المختلفة وهي تفشل في إنعاش الاقتصاد، وتفشل في وقف الانكماش، وتفشل في تحسين فرص العمل للمرأة”.
الجريمة الأوضح للانكماش هي الضغط على أرباح الشركات. وإلى جانب دوره في قمع الأجور، يلقى عليه باللوم، جزئيا على الأقل، في التفكك المستمر لثقافة الشركات التي كانت في الماضي توفر وظيفة مطمئنة مدى الحياة.
انخفاض الأسعار أعطى موظفي الخدمة المدنية وذوي الوظائف الثابتة في الشركات الكبيرة شعورا بالثروة المتصاعدة، لكن بالنسبة لأي شخص آخر ــ 99 في المائة من الشركات اليابانية صغيرة ومتوسطة الحجم ــ فقد أنتجت شعورا محبِطا بانعدام الأمن. لدى اليابان الآن جيل من البالغين الذين تحرروا حديثاً، والذين أصبحوا يشعرون بالقلق حول فرق السعر الذي يبلغ خمسة ينات بين قطعتين من الكعك في محلين متنافسين، ويواصلون عد ما لديهم من المدخرات الصغيرة في أجهزة الكمبيوتر المحمولة kakeibo، ولكن لا يستطيعون بسهولة أن يبينوا ما يريدون أن يفعلوا بما لديهم من المال. يقول تاكورو موريناجا، وهو المؤلف الذي ازدهر من خلال كتابة أدلة للعيش المقتصد التي تعد الأكثر مبيعا: “الانكماش يجعل اليابانيين غير قادرين على التفكير.
الجيل الذي بلغ سن 20 لا يحلم بأشياء كبيرة، ولكنه يتطلع إلى (لحظات) سعادة صغيرة في وضعهم الحالي. أنهم لا يدخرون لأمر كبير، بل من باب التأمين”.
التقتير والتوفير في الين
سيدخل جيل الانكماش قريبا إلى سوق العمل في اليابان، وسيقوم بذلك مع توقع متواضع فقط بحدوث زيادات في الأجور رغم بيئة العمل المتشددة. من بين نحو 20 طالبا وعاملا قابلَتْهم صحيفة “فاينانشيال تايمز”، لم يجد أي منهم فكرة أسعار الفائدة القريبة من الصفر غير عادية، وقلة منهم فقط تخيلوا أن تكون لهم حياة أكثر ثراء من حياة والديهم، وبالكاد يتوقع أي واحد منهم امتلاك أسهم، وفقط واحد منهم قال إنه سيفكر في إنشاء شركة خاصة به.
تقول إحدى طالبات مدارس الأزياء التي تحضر الاحتفال في شيبويا: “غالبا ما أفاجئ نفسي. أنا أكثر تحفظا من والدتي. وأنا أكثر تحفظا من جدتي، التي عاشت في فترة حرب”.
هنالك ثبات صارخ في المواقف. حيث سئل جميع من كانوا في المقابلات، معظمهم إما يعمل بدوام كامل أو دوام جزئي ويكسب نحو ألف ين في الساعة، بأن يختاروا ما بين اثنين من مسارات القطار المتوجهة إلى الوجهة نفسها. تبلغ تكلفة إحدى الرحلات 200 ين والأخرى 170 يناً، لكنها تستغرق 15 دقيقة إضافية.
جميع الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 20 عاما، ما عدا واحدا منهم، اختاروا الرحلة الأرخص. تقول السيدة إيمايدا: “أظن أن لدينا خلطا في قيم الوقت والمال، لكن هذا السؤال ليس نظرية. أنا وأصدقائي دائما نخوض هذا النقاش. أحيانا، يكون النقاش حول فرق قدره عشرة ينات في السعر. ربما نحن نشعر بأننا نوفر من أجل شراء الأشياء ــ بالنسبة لي ملابس جميلة أو حقيبة ــ لكن أهمية مبلغ 30 ينا المذكور هي مبدأ التوفير بحد ذاته”. تقول ماكيكو أوزاوا، مختصة في اقتصاديات العمل في جامعة المرأة في اليابان، إن اندفاع السيدة إيمايدا وغيرها للسعي وراء توفير مبالغ ضئيلة يعد تتويجا لسنوات من التقلبات النفسية.
وتضيف أن إحدى الآثار طويلة الأجل للانكماش والركود الاقتصادي كانت نمو العمالة غير المنتظمة ضمن الاقتصاد، والتوقعات المتراجعة بخصوص أي نوع من الأمن. تعد عملية الادخار جزءا من آلية الدفاع. يقول تيرو كوهارا، طالب في يوكوهاما: “يعيش الانكماش في أذهاننا وقد أصبح أمرا طبيعيا. هنالك عديد من الآثار، كثير منها لا ندركه حتى وكثير منها لا يمكننا أن نقرر ما إذا كان جيدا أو سيئا، لكنني متأكد من أنه إذا أعطيتني مبلغ 100 ألف ين الآن، فإنني سأوفر 99 في المائة منه”.
تقول الأستاذة أوزاوا إنه نتيجة لذلك، لا يدخل الشباب ما يكفي من المخاطر: “تعلم جيلنا الدرس بأنك إذا دخلت في المخاطر، يمكنك دائما الرجوع إلى موضع آمن.
الأمر ليس سهلا على الشباب الياباني البالغ من العمر 20 عاما. لا توجد هنالك أي سوق حقيقية للتوظيف في منتصف العمر الوظيفي، لذلك تعلم أنك إذا تركت عملك، لن يكون عملك التالي جيدا مثل الأول.. داخل المجتمع، ينبغي أن يكون جيل الشباب مجازفا ومبتكرا. في اليابان، هم خائفون فقط”.
تردد إيمايدا وغيرها أصداء هذا الانتقاد المتعلق بشركات اليابان وما يسمونه بعدم المرونة فيها. وتقول إن الانكماش عمل أيضا على زيادة وعيها بتباعد الفرص عن اقتصاد اليابان: “أعتقد أن الأمور ستتحسن إلى حين انعقاد دورة الألعاب الأولمبية في عام 2020، لكننا كأمة إن لم نقم باستغلال كل فرصة متاحة أمامنا بين الحين والآخر، لن تكون هنالك أي فرص بعد ذلك”.
السلامة أولا
بالنسبة لإيجو أوباتا وأكيرا نيكي، وهما طالبان من يوكوهاما وطوكيو، لا أحد منهما يخطط للخروج من منزل أهله، والسلامة هي أولوية بدلا من الثروة. لقد جعلهما الاقتصاد الياباني مع طموح لا يزيد على الحفاظ على نوعية الحياة لديهما.
يقول أوباتا: “شهد آباؤنا أياما مريحة تفوق كثيرا ما لدينا”. ويضيف: “والدتي حصلت على وظيفة في شركة ميتسوبيشي بعد تخرجها في مدرسة الفنون. ومن شأن ذلك أن يكون من المستحيل الآن. كسب الناس مزيدا من المال في ذلك الوقت؛ كانوا يستهلكون أكثر من ذلك، وكان يشترون أشياء كثيرة”.
وفقا للبروفيسورة أوزاوا، أن استمرار انخفاض الأسعار يعني أنه نادرا ما كان هناك وقت خلال السنوات التكوينية لطلاب مثل الآنسة إمايدا وأوباتا ونيكي، لم يسمعوا فيه أخبارا اقتصادية سلبية.
كثير من الخريجين الذين يبلغون سن الرشد في شيبويا يقولون إن النشوة المحيطة ببرنامج آبي الاقتصادي طال أمدها أكثر من المراحل الأخرى من الانتعاش، ولكن لم يكن أي منهم قادرا على تسمية إصلاح نقدي، أو مالي أو هيكلي محدد للسنوات الثلاث الماضية أعطاهم فائدة مباشرة.
تقول البروفيسورة أوزاوا: “لا عجب أن طلابي يعتبرون حساسين للسعر”. وتضيف: “كان لديهم ــ كجيل اعتاد على الانكماش ــ تدفق مستمر للمعلومات الفظيعة بشأن اقتصادهم. إنهم يسمعون أخبارا عن أشخاص سيفلسون أو يتقاعدون دون أن يكون لديهم المال. يرون نظام الرعاية الاجتماعية يتمحور حول العمل مدى الحياة الذي لم يتكيف مع التغيير. ويطلب منهم، من سن مبكرة، ألا يكونوا مسرفين عندما يكبرون، وألا يحاولوا مواكبة الجيران”.
رغم المخاوف والظنون، يبدو أن كلا من آبي وبنك اليابان أعطى نفسه فرجة يستطيع من خلالها إقناع جيل الانكماش بالخروج من خندقه، وأن يؤمن بارتفاع الأسعار والعودة إلى الوضع الاقتصادي الطبيعي، الذي لم يسبق لهم أن عرفوه في حياتهم قط.
الشباب الذي هم في العشرينيات من أعمارهم من الذين قابلتهم صحيفة “فاينانشيال تايمز” ربما لم تعجبهم فكرة إنشاء شركة، لكن اليابان حاليا تركب موجة من إنشاء الشركات. وفقا لأرقام من “طوكيو شوكو للأبحاث”، بين عامي 2010 و2014 قفز العدد السنوي للشركات الجديدة من 99780 إلى 119552 شركة.
يقترح البروفيسور إيشيدا أن بعض الشباب ربما أخذوا يتخلصون من مخاوفهم من أنهم تعرضوا شخصيا لأوضاع سيئة بسبب الاقتصاد.
على مدى السنوات الثماني السابقة، كان يتابع مجموعة من 4800 شخص تقع أعمارهم بين 20 و40 سنة. عدد الذين يقولون إنه ليس لديهم أمل في المجتمع كان يحوم فوق 50 في المائة منذ 2008. وفي 2013 ــ وهي أول سنة كاملة من برنامج آبي الاقتصادي ــ تراجعت النسبة إلى 41 في المائة.
غير أن مشاعر القلق تظل موجودة. تقول هاسيجاوا: “تريد الحكومة منا أن نصدق أننا في وضع يتسم بالنمو الاقتصادي، وهو وضع لم نعرفه إلا من خلال الكتب أو سمعنا عنه من آبائنا. وحتى لو تحقق، فلن أتوقف عن الادخار”.