ساندي الحايك
هل يعلم اللبنانيون أن 60 سائقاً من العاملين على خط التسفير بين لبنان وسوريا فيمحطة «شارل حلو» قضوا حتى الآن، وأن 20 آخرين باتوا في عداد المفقودين بسبب الحرب في سوريا؟ غابت مناداة السائقين في محطات التسفير: «راكب عالشام، راكب عا حلب». وحل محلها سكون الرزق المغمس بالدم.
إلى المحطة تصل سيارة الأجرة بعد صراع طويل مع زحمة السير في وسط بيروت. ما إن تترجّل وتُنزل الحقائب منها حتى تستقبلك أصواتٌ بحناجر مبحوحة هاتفة «على طرطوس، على اللاذقية، على الشام».. «لوين إختي؟ على الشام؟». يتسابق السائقون في شركة «سعد للنقليات» (إحدى الشركات المشغّلة في محطة شارل حلو) على إلقاء التحية والترحيب بالركاب، الذين بات عددهم في المحطة لا يتخطى عدد أصابع اليد الواحدة. يتجمهرون حول الزائر الخجول، ويسألونه عن وجهته ثم يقودونه إلى السيارة التي اقترب موعد انطلاقها. يساعدونه على حشر الأمتعة والحقائب. يسألونه عن طعم قهوته المفضل، ويتبادلون معه أطراف الحديث بانتظار أن تدق ساعة الصفر للانطلاق في الرحلة إلى بلاد الحرب العبثية.
«عم تكون ميّسرة الطريق موهيك؟»، يسأل أحد الركاب. في ظل كل ما يعصف بسوريا ليس مستغرباً أن يسأل هؤلاء عن حال الطرق فيها، لا بل إن زيارة البلد باتت تحتاج إلى الكثير من الجرأة، بحسب ما يؤكد أبو حسن، أحد السائقين العاملين على خط الشام. إلا أنه على الرغم من إطلاعه الواسع على كل ما يجري في بلده، يحاول التخفيف من التوتر والوجوم الذي اعتلى وجوه الركاب. فيجيبهم ممازحاً: «ليش شو بها الطريق؟ صاير إشي بسوريا أنا ما معي خبرو؟ الدنيا أمان وسلام!». أما في «خلواتهم»، فيمضي السائقون ساعات وهم يتحدثون عن مغامرات عايشوها أو سمعوا عنها، اتخذت من داخل الأراضي السورية مسرحاً لها. فتُصبح ذاكرة كل واحد منهم أشبه بـ «صندوق أسود» مقفل على الكثير من الحكايات المرعبة. يرفع أبو حسن ناظريه نحو السماء، ويُطلق تنهيدة موجعة، خارقة، كصوت جرس عتيق دُق في مأتم. لحظات ويخرق الصمت بقوله: «هنا كانت آخر مرة رأيته فيها». يتحدث عن زميله الملقب بـ «أبي شنب» الذي فُقد في سوريا في مطلع العام 2014. لم تصل للسائقين معلومات وافية عما حدث. بحسب أبي حسن فإن جلّ ما استطعنا معرفته هو أن «أبا شنب غادر مع مجموعة من الركاب إلى الشام. وعند وصولهم أنزلهم في الكاراج المعتمد من قبلنا وغادر. ثم مضى يومان ولم يعد، وبعد إجرائنا سلسلة من الاتصالات علمنا أنه فُقد، وعلى الأرجح قُتل، بعدما سُلبت سيارته». ومثله كُثر، وصل عددهم إلى 60 سائقاً، إلى جانب 20 مفقوداً لم يتمكن أحد من معرفة مصيرهم حتى اللحظة. ويؤكد أحد المشرفين على المحطة أن «سائقاً لبنانياً قضى على طريق الشام برصاص المجموعات المسلحة، ونشطت الوساطات والاتصالات على أعلى المستويات حتى تمكنا من استعادة جثته لدفنه في لبنان». أما السائق «أ. لبابيدي» فعلى الرغم من مرور ستة أشهر على غيابه عن المحطة، لا يزال «زائراً عند بيت خالتو»، أي موقوفاً، وهو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى السائقين الموقوفين لدى السلطات الرسمية السورية.
نقل مشلول
تدهور الأوضاع الأمنية في سوريا أدى إلى شلّ حركة التسفير في «شارل حلو» جزئياً، إذ يشير أحد المشرفين على الشركة، وقد رفض الكشف عن اسمه، الى أن «العمل في المحطة تراجع بنسبة 90 في المئة عما كان عليه قبل الأزمة، ما دفع بالشركة المشغّلة إلى إقالة عدد من الموظفين ووقف عمل الباصات المتجهة إلى سوريا (بولمان) كلياً بسبب تدني عدد الركاب بشكل كبير. لتغدو بذلك سيارات الأجرة وسيلة النقل الوحيدة إلى سوريا، والتي بدورها تدنت أعدادها بنسبة 20 في المئة». وأكد أن «عدد السائقين العاملين في المحطة كان 400 سائق لينخفض مع بدء الأزمة السورية إلى 200 سائق تقريباً»، موضحاً أن «للمحطة وجهتي استعمال: الأولى هي للتسفير على خط بيروت – طرابلس، إلا أن الخط المخصص لذلك في شركتنا أُقفل نتيجة الأوضاع الأمنية السيئة التي عانت منها عاصمة الشمال على مدى سنوات، والتي أثرت سلباً في حركة النقل. بالإضافة إلى المضاربات غير الشرعية من الحافلات العاملة على الخط المذكور. أما الوجهة الثانية فهي للتسفير بين لبنان وسوريا، وقد تراجع العمل في هذا المجال منذ بدء الأزمة السورية، وازدادت حدته مع تشدد الأمن العام اللبناني في إجراءاته المُتخذة لضبط الحدود، ولاسيما عند نقطة المصنع». وأضاف أنه «نتيجة الأوضاع توقف النقل بين لبنان وسوريا والاردن وتركيا الذي كان يُعد من مصادر الدخل الحيوية. كما توقف عمل سيارات الأُجرة من بيروت إلى كل من محافظات الحسكة ودرعا ودير الزور والرقة وإدلب، بسبب سيطرة المجموعات المسلحة عليها. ليقتصر حالياً على النقل من بيروت إلى محافظات طرطوس والشام وحلب وحمص واللاذقية وحماة والسويداء».
الطرق المؤدية إلى تلك المحافظات مفتوحة ولكن رحلات السائقين عليها لا تخلو من المخاطر، ولاسيما في ساعات الليل المتأخرة. فقد وقع عدد من السائقين فريسة لقطاعي الطرق والسارقين والمجموعات المسلحة، من بينهم من سُلب و «شُلّح» وترك ليعود أدراجه. وبينهم من قُتل أو خطف أو رُهن مقابل الإفشاء عن سرّ أو الكشف عن أسماء السائقين الموالين للنظام والمعارضين له. واجه معظم السائقين لحظات حرجة مع ركابهم يتحاشون ذكرها أو الحديث عنها، مشددين على أن «من استطاع أن ينجو من بين أيدي تلك المجموعات فالأكيد أن حظه بيفلق الصخر». ويُعد خط التسفير إلى حلب من الطرق الاكثر خطراً. بعد ساعات من القيادة يصل السائقون إلى نقطة معينة يستطيعون من خلالها مشاهدة مقرات المجموعات المسلحة بالعين المجردة، بحسب ما يؤكدون. ويكشف أحدهم أنه «لطالما اعتدى المسلحون على السائقين والركاب وسلبوهم ما يملكون. وأحياناً يخطفونهم للمطالبة بفدية مالية، أو يعرّضونهم لضغط نفسي ويجبرونهم على إعلان الولاء لهم»، مشيراً إلى أن «الأمر دفع بنا إلى اعتماد طرق فرعية جديدة لعدم الوقوع ضحية لهؤلاء، ما أدى إلى مضاعفة وقت الرحلة. بحيث بات المشوار من بيروت إلى حلب يستغرق 16 ساعة كحد أدنى. أما الخطوط الباقية فالرحلات عليها لا تقل مدتها عن 12 ساعة».
رزق شحيح
وعلى الرغم من مضاعفة وقت الرحلة بقيت التعرفة على جميع الرحلات من بيروت إلى سوريا كما كانت عليه (30 دولاراً). كذلك، لا يزال السائق يدفع لمكتب الشركة ما قدره 35 ليرة لبنانية على الطلب الكامل، وعليه أن ينتظر إلى أن يحين دوره على جدول الانطلاق لكي يتمكن من استقبال الركاب. وفي حال انقضاء 72 ساعة من دون تأمين اي رحلة له إلى سوريا، فإنه يصبح ملزماً على مغادرة المحطة بسيارة فارغة من الركاب وفق القوانين المعمول بها. وعليه، يمضي السائقون أحياناً ثلاثة أيام متواصلة في «كاراجات» المحطة بانتظار طيف أحد ما. فتتحوّل سياراتهم إلى مطابخ وغرف نوم ووسائد للراحة، وتُصبح مقاعدها غرفة استقبال، وزجاجها شاهداً على جراح وأسرار يثيرها الليل بقسوة. وفي النهار، يطرد السائقون الملل عنهم عبر لعب طاولة الزهر ومنافسة بعضهم بعضاً، وبشرب القهوة ونفث دخان السجائر مع تقديم تحليلات سياسية لمستقبل البلد العائم على الدمّ. ويتبادلون الأحاديث مستذكرين متعة العمل قبل الحرب، فبحسب أبي رامي «عندما كنا ننطلق إلى سوريا، في ساعات الصباح أو ليلاً، كنا نعود مسلحين بأمل ومال وفيرين، أما الآن، فحتى لو أمنّا طلباً كاملاً تبقى الرحلة شاقة ومرهقة، ويتخللها الكثير من الإهانات والذلّ على حواجز التفتيش».
وفي كل صباح يبزغ ويقرر فيه أحد السائقين الانطلاق إلى سوريا، فإنه يشعر أن هذا اليوم سيكون حتماً يومه الأخير. وهكذا ينطبق على السائقين المثل القائل «الداخل إلى سوريا مولود والخارج منها مفقود.. والرزق على الله».