ذكاء مخلص الخالدي
قبل سنتين تقريباً ظهرت إلى العلن نتائج مسوح أجرتها شركات متخصصة ورجحت أن المياه الإقليمية اللبنانية تحتوي تحت قاعها نفطاً وغازاً بكميات تجارية. وعلى رغم ان الدولة اللبنانية لم تخطُ خطوة إلى الأمام من خلال إبرام اتفاقات لاستخراج النفط والغاز وتسويقهما، تتناول وسائل الإعلام الموضوع من جوانب متعددة. وعالجت إحدى الفضائيات اللبنانية أخيراً مسألة التعامل مع موارد النفط والغاز في حال التثبت منها في لبنان، واختُتِم النقاش، الذي شارك فيه اقتصاديون، بالقول ان على لبنان، خوفاً من ان يطاول الفساد موارد الطاقة، ألا ينفق من هذه الموارد عندما تتحقق وأن يحتفظ بها في صندوق سيادي، على غرار مثيله في النروج، تجري تنميته بالاستثمار الخارجي ويُحتفَظ به للأجيال المقبلة.
ثمة جانبان للمسألة: الأول، متى سيتوجه لبنان بجدية لاستخراج النفط والغاز في ضوء مستقبل السوق الدولية لهذه المنتجات وهي سوق أصبحت مبهمة ويصعب التمكن بها بسبب عاملين مهمين قد تكون آثارهما البعيدة المدى مؤكدة. الأول، الانخفاض الكبير في أسعار النفط بعد زيادة المعروض في السوق الدولية نتيجة الزيادة الكبيرة في إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة واحتمال ان تصبح الأخيرة لاعباً مهماً في السوق العالمية للنفط.
والثاني، إقرار اتفاق حاسم للمناخ في باريس الشهر الماضي يحل محل اتفاق كيوتو الذي انتهى العمل به، ويهدف الاتفاق الجديد، الذي وافقت عليه كل الدول بما فيها الولايات المتحدة التي لم توقع اتفاق كيوتو، إلى خفض انبعاث الكربون في الأمد القريب مع وقفه كلياً بين عامي 2050 و2070 بسبب التغيرات المناخية التي تسود العالم بما فيها الدول المتقدمة نتيجة الفشل في تقليص انبعاث الكربون.
أما الجانب الثاني من مسألة موارد الطاقة في لبنان فهو: هل فعلاً من مصلحة لبنان عدم إنفاق موارد النفط في حال تحققها والاحتفاظ بها بدلاً عن ذلك في صندوق سيادي للأجيال المقبلة؟
على رغم التقلبات التي شهدتها سوق النفط في العقود الثلاثة الماضية لأسباب عديدة، والحديث المتكرر عن مستقبل الطلب على النفط في الأمدين المتوسط والبعيد، في ضوء التطورات التكنولوجية والعلمية وتطبيقاتها في تطوير مصادر الطاقة البديلة، لم يثر الموضوع يوماً القلق الذي أثاره بدء الولايات المتحدة بإنتاج النفط الصخري وإعلانها قرب تحقيق الاكتفاء الذاتي من النفط بعدما كانت المستورد الأول في العالم، الأمر الذي أدى إلى تخمة في المعروض من النفط وانخفاض الأسعار منذ منتصف 2014 بـ 65 – 70 في المئة تقريباً. صحيح ان جزءاً من انخفاض أسعار النفط يعود إلى تباطؤ الاقتصاد العالمي، خصوصاً في أوروبا والصين والهند، لكن الاقتصاد العالمي لا بد من أن يشهد دورة أخرى من الارتفاع. إلا ان التأثير الأكبر على مستقبل أسعار النفط سيتأتى من بدء إنتاج الولايات المتحدة للنفط الصخري وقد تتبعها دول أخرى.
هذا التطور يضع منتجي النفط التقليديين في العالم، خصوصاً دول “أوبك”، أمام وقفة جدية لمراجعة مستقبل اقتصاداتها. ويضع الدول التي تفكر في دخول نادي إنتاج النفط إلى التأكد من الجدوى الاقتصادية في هذا الصدد. أما العامل الآخر الذي سيصبح مقيداً لاستهلاك النفط فهو اتفاق المناخ الجديد الذي يعطي رسالة واضحة وقوية إلى أصحاب القرار والأسواق والمستثمرين والمؤسسات البحثية للاستعداد للتعامل مع اقتصادات يتقلص فيها انبعاث الكربون تدريجاً خلال السنوات الـ 35 سنة المقبلة حتى يتلاشى تماماً خلال السنوات العشرين التي تليها.
على لبنان ان يأخذ هذين التطورين المهمين على محمل الجد، ويحاول الاستفادة من النفط والغاز لديه بأسرع وقت قبل ان تؤدي التطورات العالمية إلى ان يصبح استخراج النفط والغاز غير مجدٍ اقتصادياً، خصوصاً في حال استمرار انخفاض الأسعار، و/أو يصبح استخدامه من قبل المستهلكين مخالفاً لاتفاق باريس، ما سيقلص الطلب عليه أسوة بالطلب على النفط من بقية العالم. يُذكَر ان بعض الشركات التي تعمل بالتنقيب عن النفط في السواحل البحرية المغربية أوقفت العمل بنشاطاتها لأن الكلفة أصبحت غير مجدية مقارنة بالسعر.
وفي شأن التوصية بعدم إنفاق موارد النفط حالياً والاحتفاظ بها للأجيال المقبلة، ففي بلد وضعه كوضع لبنان، يعاني مشاكل اقتصادية كبيرة كمعدلات النمو الاقتصادي المتواضعة وارتفاع معدلات البطالة ومعدلات الفقر واهتراء البنية التحتية وتخلف القطاعين الزراعي والصناعي وارتفاع الدَّين العام، فكيف يمكن التوصية بوضع موارد النفط في حال تحققها في صندوق سيادي للأجيال المقبلة وإعطاء النروج التي تُعتبَر في طليعة الدول المتقدمة في العالم نموذجاً؟
إن البلدان التي أنشأت صناديق سيادية إنما فعلت ذلك لأن لديها فوائض مالية تزيد عن حاجاتها الاقتصادية والاجتماعية الآنية. فالنروج ودول مجلس التعاون الخليجي لجأت إلى تأسيس صناديق سيادية بعدما لبت حاجاتها المحلية أولاً. والاستثمار في رأس المال الثابت ورأس المال البشري واقتصاد المعرفة، كفيل بتطوير الاقتصاد اللبناني ووضعه على سكة النمو المستدام الذي سيؤمن بدوره موارد جديدة تستفيد منها الأجيال المقبلة التي ستفتح أعينها على بيئة اقتصادية واجتماعية متطورة وحاضنة لحاجاتها وطموحاتها ولا تضطرها إلى الهجرة بحثاً عن فرص عمل.
وبذلك يصبح بقاء هذه الأجيال في بلدها أكبر ما يمكن ان تقدمه موارد النفط إلى لبنان، وأكبر مما يمكن ان يحققه المردود المالي لأي صندوق سيادي. أما ما يتعلق بالفساد، فالأخير يمكن ان يطاول أموال الصندوق السيادي نفسه وليس فقط الإنفاق على التنمية المحلية.