كتب ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
ماذا فعل سمير جعجع؟ هل حقاً أعلن تأييده ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة؟ هل فعلها صاحب «الإمبراطورية المعرابية» المترامية الأطراف والأبنية والجبال؟ نعم فعلها. و «حيث لا يجرؤ الآخرون»، تجرأت «القوات اللبنانية»، لأنه «صار لا بد من عملية إنقاذ غير اعتيادية ومهما كان ثمنها»، كما قال قائدها.
أمس حمل سمير جعجع الصولجان المسيحي. ثبّت نفسه زعيماً للمسيحيين ووضع عون على طريق بعبدا، من دون أن يُدخله إلى القصر. بدا المشهد أقرب إلى تسلم وتسليم بين زعيم وآخر. بدا عون كأنه ينهي الفصل الثاني من تسليم التركة. في البدء كان تسليم رئاسة «التيار الوطني الحر» لصهره، واليوم تسليم الزعامة المسيحية لخصمه التاريخي. وجعجع، من جهته، لم يقصّر في التأكيد على هذا المنحى. بالغ، في مؤتمره الصحافي، في التعامل مع عون كعجوز أكثر من تعامله معه كرئيس جمهورية محتمل. أمسك بيده ليساعده في الصعود إلى المنصة ولينزل السلالم. دعاه إلى التنبّه من هذه الدرجة أو تلك، وضع يده خلف ظهره وهو يعرّفه على الجالسين في المقاعد الأمامية. كان عطوفاً. محباً. واثقاً من نفسه ومن اقترابه خطوة أخرى من «شباب التيار» الذين لا يترك مناسبة إلا ويحيي نضالاتهم.
باختصار، بدا المشهد محيراً: من يرشح من؟ هل جعجع يرشح عون للرئاسة أم العكس؟ قالها قواتي عتيق: «يرشحان بعضهما البعض». لم يقلها لوحده. القواتيون الذي ملأوا القاعة احتفلوا أمس أكثر من العونيين. وأمام عيني غريمهم ومسمعه رددوا: حكيم، حكيم. و «الحكيم» كان على قدر المهمة. سهلاً ممتنعاً وواثقاً من نفسه إلى حد الإكثار من النكات و «النكوزة» بالوزير جبران باسيل. ابتسم عون لكل النكات، وصفّق حيث صفق الجمهور القواتي، الذي تعامل مع المؤتمر كما لو أنه النصر الذي طال انتظاره. هي ليست مصالحة كمصالحة الجبل، كما وصفتها النائبة ستريدا جعجع. هي أقرب إلى الانتصار المدوي، الذي انتهى بتوقيع عون صك الاستسلام.
والصك المؤلف من 10 نقاط هو بجوهره أقرب إلى مبادئ «ثورة الأرز» وأدبيات «14 آذار» منه إلى أدبيات «8 آذار» أو حليفها «التيار الوطني الحر». لكن مع ذلك قالها عون بالفم الملآن: كلّ ما أتى على ذكره الدكتور جعجع في كلمته، لا شكّ أنّه في ضميرنا وفي كتابنا، ونحن سنعمل لتحقيقه. وجعجع قال، من جملة ما قاله في كلمته، بـ «بسط سلطة الدولة وحدها على كامل الأراضي اللبنانية» و «ضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية السورية في الاتجاهين، وعدم السماح باستعمال لبنان مقراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين»، وهما بندان لا ينقصهما سوى اسم «حزب الله» في متنهما حتى يكتمل الهدف من وجودهما أصلاً.
نعم وافق عون على عشر نقاط كانت خلاصة مناقشات طويلة تولاها النائب ابراهيم كنعان ورئيس جهاز الاعلام والتواصل في «القوات» ملحم رياشي. لكن المحفّز الأول لعملية تخمير الاتفاق لم يكن سوى ترشيح النائب سليمان فرنجية من قبل الرئيس سعد الحريري، فهو الذي جعل عون يتقدم باتجاه الموافقة على بنود كان يرفضها في السابق.
وهذا الترشيح هو الذي أعطى «القوات» الجرأة لتتخطى حليفها «المستقبل» بثقة من حافظ على مبادئ «14 آذار» وجعلها «نواة برنامج رئاسي»، بعكس ما فعل الحريري نفسه الذي «لم يراع هذه المبادئ عندما رشّح سليمان فرنجية». كما يحق لـ «القوات» أن «تعلّم» على حليفها في طريقة الترشيح وطريقة التفاوض ووضوح الرؤية.. وكل ذلك ينطلق من قراءة قواتية تؤكد أنه إذا كان الرئيس سيكون من «8 آذار»، فالأولى به أن يلتزم بمبادئ «14 آذار».. وبنص مكتوب لا بكلام معسول.
بالرغم من كل ذلك، فقد أصرّ «القوات» على عدم إظهار ترشيح عون كتحد لـ «المستقبل» بل على العكس. فتح جعجع يديه، بوصفه «رأس حربة 14 آذار»، داعياً «جميع الأفرقاء والأحزاب والشخصيات المستقلة إلى الالتفاف حول ترشيح العماد عون، علّنا نخرج من حالة العداء والاحتقان والانقسام التي نحن فيها». وعلى المنوال ذاته، كانت ستريدا جعجع أكثر وضوحاً عندما تمنّت من جميع اللبنانيين «ألا يعتبروا أن هذا الحدث موجّهاً ضد أي شخص أو طائفة أو مكوّن في هذا الوطن وأن يتفهموا أن هذا الترشيح، إضافة إلى بعده الوطني، له بعد مسيحي، وعلى الجميع أن يتفهم هذا الموضوع».
إعلان الترشح لم يكن سوى البداية بالنسبة لـ «القوات». الخطوة الثانية يجب أن تخرج من عند عون، الذي عليه أن يلملم أشلاء تحالفه، ويقنع «حزب الله» بسحب ترشيح فرنجية (أكد أمس من بكركي استمراره بالترشيح). هل في ذلك إشارة من «حزب الله»؟ من المبكر الإجابة على هذا السؤال. لكن الأكيد أن استمرار فرنجية سيطرح أكثر من علامة استفهام حول موقف الحزب وحول السؤال الدائم عن قدرة اللبنانيين على تقرير مصيرهم بيدهم. الأمر يشبه المزحة بالنسبة لكثر. وهؤلاء يرون أنه في ذروة الاشتباك السعودي ـ الإيراني يصعب تمرير الرئاسة اللبنانية. وما كان يسري على ترشيح سليمان فرنجية يسري على ترشيح ميشال عون. الرئاسة يجب أن تكون ضمن سلة تفاهمات، تبدأ بقانون الانتخاب ولا تنتهي بتحرير السلطة الإجرائية من قبضة «المستقبل».
وإذا كان فرنجية قد زار الراعي ليلاً، فقد كانت بكركي نفسها محطة لكثر من المدعوين إلى «العرس المسيحي»، أو إلى الساعين إلى عرقلته، ولأن الرئيس فؤاد السنيورة من الفئة الثانية، فقد زار بكركي لاستكمال مسعىً كان «المستقبل» قد بدأه لترتيب زيارة فرنجية إلى الفاتيكان ولقاء البابا.
لم يتأخر جعجع في العمل. سريعاً تواصل مع «الكتائب»، الذي أعلن أنه يدرس الترشيح وسيعلن قراره الأربعاء. والهدوء نفسه خرج من كليمنصو، حيث أعلن النائب وليد جنبلاط أن قيادة «الحزب الاشتراكي» و «اللقاء الديموقراطي» ستجتمعان لإصدار القرار بشأن ترشيح عون.
كل ذلك يشي أن جلسة 8 شباط ستكون مفصلية. ولذلك، بادر الجميع وقبل إعلان الترشح إلى احتساب الأصوات.. لكن فاتهم تفصيل صغير: لم يغير الاتفاق مع «القوات» من موقف عون. وهو لا يزال غير مستعد إلى النزول إلى المجلس للتنافس مع أحد.. إما يكون المرشح الوحيد أو يقاطع الجلسة.