Site icon IMLebanon

أنجيلا ميركل: ابنة القس التي أصبحت “أم” ألمانيا الموحدة!

angela-merkel

 

هي بحسب المختصّين في شؤون السياسة العالميّة، المرأة الأكثر نفوذًا وقوّة في العالم. وهي “أمّ ” ألمانيا التي توحّدت مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي بعد انهيار جدار برلين، وانتفاء ألمانيا الديمقراطية التي كانت تنتمي الى القطب الشيوعي.

تلك هي المستشارة الألمانية انجيلا ميركل المهابة داخل بلادها وخارجها من قبل الشخصيات الكبيرة، والتي تمكنت من ان تحتلّ نفس المكانة البارزة والرفيعة التي كانت تحتلها نساء حكمن بلدانهن بيد من حديد مثل البريطانية مارغريت ثاتشر، والهندية انديرا غاندي.

المتمعّن في مسيرتها السياسيّة، يمكنه أن يعاين أن ميركل تخيّر دائما صعود الدرجات ببطء، وحذر من دون الإعلان عن نواياها، ومن دون الكشف عن أهدافها، مستعملة الطرق التكتيكية الرصينة والخفية لمفاجأة خصومها في المكان والزمان المناسبين لكي تكون الضربة قاضية ونهائيّة.

ويقول المؤرخ فريتز شتارن أن ميركل أدركت منذ انهيار جدار برلين أن اعادة توحيد ألمانيا فرصة ذهبية لجعل بلادها قوة كبيرة قادرة على طيّ صفحة الماضي الأسود، وتجاوز تبعات كارثتي الحربين العالميتين. لذلك هي تعمل دائما واضعة هذا التصور نصب عينيها، وانطلاقاً منه تصيغ مخططاتها السياسية الداخلية والخارجية.

تقول ماريام لاو، الصحافية البارزة في أسبوعية “دي تزايت”، إن الميزة التي تتحلى بها ميركل هي قدرتها على النقد الذاتي، وعلى الاعتراف بأخطائها مبدية العزم على تجاوزها، وإصلاح ما فسد بسببها.

ولدت انجيلا كاسنير التي ستصبح ميركل بعد زواجها الاول عام 1977، في مدينة هامبورغ بشمال ألمانيا الغربية عام 1954.

ميركل الطفلة

غير أن والدها الذي كان قسًا في الكنيسة اللوثرية فضّل الانتقال مع عائلته الى ألمانيا الشرقية في حين كانت هناك أعداد وفيرة من سكان هذه البلاد يفرون للعيش في الجانب الغربي. وربما لهذا السبب لقبه البعض بـ”القسّ الأحمر”. وكان المجمع السكني “فالدوف” بحي “تاملين” ببرلين الشرقية حيث استقرت العائلة، كئيبًا، وأغلب سكانه فقراء ومعوّقون ومصابون بعاهات جسدية وعقلية.

وفي ما بعد ستقول انجيلا ميركل إن العيش بين تلك الكائنات البشرية ساعدها على الإحساس المبكر بالألم الإنساني. وخلال حملتها الانتخابية عام 2005، أشارت إلى أنها فكرت احيانًا في الهروب لكن شرط أن يصبح النظام الشيوعي أشد سوءًا غير أنها لم تكن ترغب في الانتساب الى الحركات المعارضة للنظام.

وفي سنوات المراهقة والشباب لم تكن انجيلا تعنى كثيرًا بمظهرها الخارجي، وبملابسها عكس بنات جيلها.

ميركل لم تهتم كثيرا بمظهرها الخارجي أو بملابسها وربما لهذا السبب لم تعش مثلهن قصص حب عاصفة، بل حافظت على احتشامها متجنبة الخوض مع زملائها في مواضيع تتصل بالحب والجنس. أما في الدراسة، فقد كانت متفوقة دائما خصوصا في الفيزياء والكيمياء. وفي نهاية كلّ سنة دراسيّة، كانت تحصل على أرفع الجوائز. وكانت تحب أن تقرأ الكتّاب الروس بلغتهم الأم التي ستتحدث بها في ما بعد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رغم أن هذا الأخير يتقن لغة غوته وشيللر.

 وخلال مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية، انتسبت الى”الشبيبة الألمانية الحرة” التي كان يهيمن عليها الحزب الشيوعي. مع ذلك كانت من حين الى آخر تتجرّأ على انتقاد النظام لكن في حلقات ضيقة. وفي حلقات ضيّقة أيضا كانت تجاهر بالقول إن ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي نظام شمولي يسيطر على الدول التي تسير في فلكه، معبرة عن معاضدتها للنقابات البولونية التي كانت قد اعلنت في نهاية السبعينات من القرن الماضي عن معارضتها للنظام الشيوعي في بلادها.

وكانت انجيلا في الثالثة والعشرين من عمرها لما تزوجت من شاب يدعى اولريك ميركل متخصص مثلها في الفيزياء، غير أنها انفصلت عنه عام 1981 لتشتغل انشغالاً كليًا بعملها في أكاديمية العلوم القريبة من مقر جهاز الاستخبارات “ستازي”.

وفي هذه الفترة الموسومة بالانتظار والترقب، والتي شهدت تصدعات خطيرة داخل القطب الشيوعي، خصوصا بعد بروز “البيريسترويكا” في ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، أظهرت انجيلا ميركل أنها تمتلك قدرة هائلة على التحكم في عواطفها، وإخفاء أفكارها عن أقرب الناس اليها. وفي مواجهة المشاكل العويصة، والمواقف الحرجة، كانت تحافظ على رصانتها، وبرودة اعصابها. وفي ما بعد سيقول عنها السينمائي الشهير فولكر شلوندروف، مخرج فيلم “الطبل” إنه يجدر بكل من يخالف انجيلا ميركل في الرأي، أن يفكر مرتين لأنها تمتلك نفوذ الواثق من نفسه، والمدرك أنه على حق!

عقب رحلة الى مدينة هامبورغ عام 1985 لحضور حفل زواج احد أقاربها، عادت ميركل وهي واثقة بأن نهاية النظام باتت وشيكة. وهذا ما حدث بالفعل في خريف عام 1989. فقد انهار جدار برلين ومعه انهار النظام الشيوعي لتجد هي نفسها عضوة في حزب “التجدد الديمقراطي”. غير أنها لم تمكث فيه طويلاً. فقد اختارها لوتار دو ميزيار رئيس الحكومة لتكون ضمن الفريق العامل معه.

وفي هذه الفترة، اكتشفت ميركل أن السياسة هي المجال الأفضل لتحقيق مطامحها التي كانت تكبر في الخفاء من دون أن يلاحظ ذلك أيّ أحد من العاملين معها. وبعد استكمال الوحدة الألمانية، التحقت بالحزب الديمقراطي المسيحي الذي يتزعمه هلموت كول. وكان هذا الأخير قد لاحظ نباهتها، وذكاءها منذ لقائه الاول  بها. لذلك لم يتردد في اختيارها هي التي أصبح يعتبرها “ابنته الصغيرة” وزيرة للمرأة والشباب.

والذين احتكوا بها في هذه الفترة، يتفقون على انها كانت تلتهم الملفات التي تقدم لها، وتجيب على الاسئلة المتعلقة بها بسرعة ودراية أذهلت بقية الوزراء في أول حكومة لألمانيا الموحدة. وخلافًا لهؤلاء، كانت أنجيلا قليلة الكلام. وفي صمت كانت تعمل، وتتحرك هنا وهناك مدربة نفسها على الالمام بخفايا السياسة وشعابها. والوحيدة التي كانت تثق فيها، وتأتمنها على أسرارها، تدعى بيتي باومان التي ستكون عضدها الايمن لما أصبحت مستشارة ألمانيا!

في عام 1998، نجح الاشتراكيون الديمقراطيون في ازاحة هلموت كول من كرسيّ المستشارية الذي ظل متربعًا عليه على مدى 16 عامًا، ليحل مكانه جيرهارد شرودر الذي تعلم فنّ السياسة في انتفاضة ربيع 1968 الطلابية. وشكل ذلك ضربة قاسية لـ”الرجل الضخم” (هلموت كول) موحد ألمانيا. ومرة أخرى وجدت أنجيلا ميركل الفرصة الذهبية لفرض وجودها. فقد استغلت الفضيحة المالية المتصلة بالحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي المسيحي لتوجه ضربة قاتلة لمن كان سببًا في صعودها، والذي كان يسميها “ابنتي الصغيرة”، أي هلموت كول.

ذلك انها نشرت في جريدة “فرانكفورت الجماينة” واسعة الانتشار، رسالة طالبت فيها قيادات وأنصار الحزب المذكور بالتخلي عن زعيمه العجوز الذي لم يعد قادرًا، بحسب رأيها، على فهم الواقع السياسي الجديد في ألمانيا الموحدة. وكان تعليق كول على تلك الرسالة: “لقد فتحت الباب لقاتلتي، ووضعت الأفعى على ذراعي!”.

وأما جون كولبهورن الذي عمل سنوات طويلة سفيرًا لألمانيا في واشنطن، فقد قال: “هذه السيدة – يقصد أنجيلا ميركل – صعبة المراس، وكل من يحاول أن يعترض طريقها، يجد نفسه ميّتًا فجأة. وقائمة الرجال الذين سوف تنجح في التخلص منهم ستكون طويلة”. بعد ذلك بأشهر قليلة، انتخبت ميركل بالاجماع رئيسة للحزب الديمقراطي المسيحي. وفي انتخابات 2005، رشحت من قبل حزبها لمنصب المستشارية، ونجحت في إلحاق هزيمة منكرة بجيرهارد شرودر الذي لم يكن ينقطع عن توجيه انتقادات لاذعة لها. وكان يقول ساخرًا منها: “ابنة القس تصلح أن تكون في الكنيسة وليس في السياسة!”.

ورغم كثرة خصومها، ظلت ميركل تتربع على عرش المستشارية، مظهرة قدرة مدهشة على مواجهة ومعالجة القضايا الساخنة سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو غيرها. وإليها يعود الفضل في كبح جماح الاحزاب اليمينية المتطرفة.

كما أنها لم تتردد في فتح أبواب بلادها لأعداد كبيرة من المهاجرين الفاريين من جحيم الحرب في سوريا.

وقد أثار قرارها هذا غضب الحركات اليمينية المتطرفة، خصوصا حركة “بيغادا” التي ظهرت قبل سنتين في مدينة درسدن، شرقي البلاد داعية الى وجوب الحد من الهجرة، معتبرة أن المهاجرين المسلمين يشكلون خطرًا كبيرًا على الامن، وعلى الثقافة الألمانية، وقد وجدت هذه الحركة في أحداث ليلة رأس السنة الماضية، ذريعة لشنّ هجومات جديدة على ميركل حتى أن البعض من العارفين بخفايا الواقع الألماني راحوا يؤكدون أن المستشارة الألمانية الحالية  قد تخسر منصبها في الإنتخابات المقبلة. وقد يكون هؤلاء على خطأ. فميركل أثبتت في أكثر من مرة أنها قادرة على مواجهة المصاعب والعواصف السياسية. وقد يكون كارل -تيودرو زو غوتنبارغ، وزير الدفاع، على حق عندما قال عنها: ”هذه المرأة تعرف كيف تقود سيارتها في الضباب الكثيف!.