خضر حسان
يمكن القول بأن أهم حدث شهدته الساحة العربية منذ حوالي 40 عاماً، هو الثورات او الحراك الشعبي العربي. فمنذ ان ثبّتت نفسها في السلطة، الانظمة الحالية او تلك التي خلعتها الثورات، لم تشهد الساحة العربية حركات تغييرية حقيقية كتلك التي كانت موجودة مع المد الوطني الذي ساد الشارع العربي منذ 40 عاماً وما قبل.
فمع اختلاف تلوينات الحركات الوطنية، الا انها استطاعت طرح افكار ثورية قائمة على برامج واضحة عابرة للإنتماءات الاولية. ومن اهم تلك الافكار، كانت الافكار الاقتصادية التي حملت الصراع الطبقي كسلاح ضد الاحتكارات وضد الصراع الطائفي. انحسار المد الوطني، وبعيداً عن اسبابه، غيب الجانب الاقتصادي في الصراع بين الشعب والسلطة وبين الفقراء واصحاب الاحتكارات الذين هم بمعظمهم اهل سلطة. وانطلق التغييب من محاولة السلطة ابتزاز المواطن من خلال طرح التفاضل ما بين الاستبداد الذي يحافظ على بقايا لقمة العيش التي تؤمنها الانظمة، وبين الحرية التي قد تهدد عملية انتزاعها، بقايا لقمة العيش. وكان المواطن خلال 40 عاماً معرّضاً لدعاية الانظمة المترافقة مع القمع الامني، وكان المواطن يرى عبر اعلام النظام وادواته الثقافية والاجتماعية ان ما يهدده ليس الجانب الاقتصادي وحرية الرأي، بل هو العدو الخارجي المتمثل بإسرائيل والمشروع الاميركي بشكل اساسي، وبالعدو الداخلي المتمثل بالطائفية وبعملاء اسرائيل واميركا. في حين ان كل الانظمة العربية دون استثناء، لم تكن تتعارض مع المشروع الاميركي ولا يضرها وجود اسرائيل، بل على العكس كانت اسرائيل بالنسبة لبعضهم شريكا سياسياً، وسوقاً اقتصادية. وعليه رضخ الشارع العربي لفترة طويلة، وكانت خلال هذه الفترة، العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية تختمر دون ايجاد متنفس كاف لتلافي الانفجار.
بدأ انفجار الشارع اقتصادياً من تونس، بعد حادثة صفع البوعزيزي ثم إحراقه لنفسه، وامتد الانفجار وصولا الى سوريا، مروراً بمصر وليبيا. وزادت معدلات الفساد المرتفعة من حدة الإنفجارات، إذ يُعتبر الفساد المالي والإداري “أحد المؤشرات المعيارية التي يمكن أن تساهم في تفسير العلاقة بين المواطنين والدولة، وتقييم المواطنين لأداء دولهم بصفة عامة”. ويضاف الى ذلك، أزمات البطالة وهجرة الشباب وإنخفاض الحد الأدنى للأجور، وغياب البنى التحتية… وما الى ذلك. اما اعتراض المواطنين العرب على ما يحصل داخل أنظمتهم، فموجود بقوة، حتى وإن لم يُعلن عن ذلك صراحة. فعلى مستوى الفساد المالي والإداري مثلاً، فإن “الرأي العام في المنطقة العربية مجمع، وبنسبة 92%، على أن الفساد منتشر بدرجات متفاوتة في بلدانه”، وذلك استناداً الى الدراسة التي أوردها المركز العربي للدراسات والأبحاث الإقتصادية، ضمن التقرير الذي أعدّه للمؤتمر الذي يقام على مدى 3 أيام، تحت عنوان “خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته”، في الجامعة الأميركية في بيروت.
الهَم الإقتصادي وأولويته في تحليل الثورات العربية، يظهر بوضوح في سلوكيات المواطن العربي وفي تفسيره وتعليقه على ما وصلت اليه الثورات بعد 5 سنوات من إندلاعها. فنزول المواطنين الى الشوارع تحت الضغط الاقتصادي، يضع العامل الإقتصادي كـ “عامل اساسي في رؤية المواطن لأسباب إندلاع الثورات العربية، وعامل أساسي في رؤيتهم لأسباب تعثر الثورات العربية”، وفق ما يراه المدير التنفيذي للمعهد، محمد المصري، والذي يشير في حديث لـ “المدن” الى ان “الأكثر فقراً في العالم العربي، هم الذين يحملون خيبات أكثر، نتيجة ما آل إليه وضع الثورات”. وعليه، فإن السنوات الخمس التي مرّت على الثورات العربية، أظهرت بوضوح ان كل الأطراف المشاركة في عملية صنع القرار والتغييرات التي طبعت الدول العربية خلال الثورات، هي أطراف لها مصالح إقتصادية من كل ما يجري، من اميركا الى روسيا وإيران وتركيا وغيرها، وتتفاوت المكاسب الإقتصادية بحسبب تعزيز مكانة كل طرف على أرض الواقع. وما التغيرات في سعر النفط، ورفع العقوبات الاقتصادية عن ايران، والاتفاق النووي، وغيره، سوى سبب اساسي لما يحصل في العالم العربي، وهو بالطبع ما لم يكن يحسبه المواطن العادي عندما نزل الى الشوارع صانعاً لثورات ضد انظمته الفاسدة.
ويشكّل تقرير الأمم المتحدة بشأن الحالة والتوقعات الاقتصادية لعام 2016، الذي صدر الخميس، دليلاً على تأثير ارتفاع حدة الصراع، على ضوء الثورات العربية، على اقتصادات الدول العربية. ويشير التقرير الى ان “متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي في غرب آسيا في عام 2015 تراجع إلى 2%، ويتوقع أن يشهد عام 2016 تسارعاً متواضعاً بنسبة 2.4%، ولكن ينتظر أن يظل النشاط الاقتصادي في المنطقة ضعيفاً جداً مقارنة مع متوسط النمو خلال السنوات الخمسة عشر الماضية. وفي عام 2017، يتوقع أن تستفيد الاقتصادات المصدرة للنفط من انتعاش معتدل في أسعار النفط يؤدي إلى نسبة نمو في حدود 3% للناتج المحلي الإجمالي الإقليمي”، ويضيف التقرير ان “ضغوط التضخم خفت في معظم البلدان في ظل الانخفاض العالمي لأسعار السلع الأساسية. وفي حين تم احتواء التضخم في العراق رغم الصراع المسلح، تواصل التضخم المفرط في الجمهورية العربية السورية في عام 2015 كنتيجة مباشرة للقيود الحالية على الصرف الأجنبي. كما شهد اليمن، في ظل اشتداد النزاع المسلح، ضغوطا تضخمية عالية وتضخما قدر بنسبة 22 في المائة في عام 2015”.
وبرغم وجود الوعي الكافي لدى المواطن العربي للمتغيرات الاقتصادية التي عصفت بدوله، ومنها بشكل رئيسي الديون التي ترتبت على الدول العربية، فضلا عن الأموال التي تحتاجها عملية إعادة الاعمار، والتي لا بد وان تتخذ شكل الديون في مرحلة لاحقة، الا ان المواطن العربي يرى بأن الأنظمة اليوم باتت غير قادرة أكثر من قبل، على حل المشكلات الاقتصادية أو الحد من الفساد المالي والإداري، او تطبيق اي خطة من خطط الإصلاح. وبحسب إستطلاع المعهد العربي لعام 2015، فإن أراء المواطنين بقدرة أنظمتهم، تغيرت على مدى السنوات الخمس، إذ كانت نتائج مؤشر العامين 2012 و2013 تشير الى ان توقعات المواطنين وصلت الى 53%، في حين ان مؤشر العام 2014 وصل الى 47%، اما مؤشر العام 2015، فقد وصل الى 49%.
الجانب الإقتصادي هو المحرك الأساسي للثورات العربية، ولتحركات المستفيدين منها. الا ان التفاعل مع هذا الجانب على مستوى الشارع العربي، يبقى خجولاً، نظراً للعوامل السياسية والدينية التي تروج لها الأطراف المتحاربة ضمن موجات العنف التي دخلت على خط الثورات الشعبية. ويزيد من تفاعل الشارع مع هذه العوامل الجانبية، إستعداد الشارع موضوعياً للإستجابة الى تلك العوامل، وخاصة الطائفية، نظراً للإنقسامات المنتشرة على طول العالم العربي من المحيط الى الخليج، والمعززة بغياب ثقافة المواطنة.