غير أنّ فكرة احتواء «١٤ آذار» لعون، أو أقلّه عدم تركه بكليّته في حضن «حزب الله»، ليست جديدة. والحريري ليس مقترحها، كما قال «الحكيم» في اطلالته التلفزيونية أمس الأول.
والواقع أنّ حقوق «الملكية الفكرية» لهذه الفكرة محفوظة بكاملها للسفير الاميركي الأسبق في لبنان جيفري فيلتمان. ووثائق «بيت الوسط» لا تزال تحتفظ بتفاصيل ذاك الاجتماع الذي ضمَّ فلتمان وأقطاب «١٤ آذار»، وذلك خلال مروره السريع على بيروت آتياً آنذاك من جولة شملت دولاً خليجية وعربية.
زمان هذا الاجتماع كان بعد مرور أشهر قليلة على «انقلاب ٨ آذار» على رئاسة الحريري للحكومة وتأليف حكومة نجيب ميقاتي التي سمّاها الاميركيون والسعوديون «حكومة حزب الله».
كانت الأجواء حينها في «١٤ آذار» تَميل الى الاعتقاد بأنّ حكومة ميقاتي عمرها قصير، وأنّ الحلفاء الدوليين والإقليميين سينظمون جهداً محلياً وخارجياً لإسقاطها في أسرع وقت. ولكنّ أجواء اجتماعهم بفيلتمان حينها أظهرت صورة مغايرة. دخل جيف الى قاعة الاجتماع في «بيت الوسط» ليجد في انتظاره القادة الابرز من أقطاب «١٤ آذار»، يتقدّمهم الرئيس فؤاد السنيورة مترئساً بدلاً من الحريري الذي كان غادر البلد.
استعجل الحاضرون طرح الأسئلة على فيلتمان، وكلّها تركزت على سؤال ماذا يمكن أن تفعل أميركا للرد على انقلاب «حزب الله» على حكومة الحريري؟ وتحديداً كيف تساعد واشنطن «١٤ آذار» لاستعادة موقع رئاسة الحكومة؟
صدَمت ردود فيلتمان الحاضرين؛ وردّ على أسئلتهم بطرح سؤال: ماذا كان يمكن للحريري أن يفعل لو عاد رئيساً للحكومة في هذه المرحلة، أكثر ممّا سيفعله الآن ميقاتي؟ وأضاف: «إنني قادم من جولة خليجية. لم اسمع من حلفائكم هناك أنّهم في صدد العمل لإسقاط ميقاتي وإعادة الحريري الى الرئاسة الثالثة». وتابع: «كلّ ما هو مطلوب فعله الآن حصراً وتحديداً هو أمر واحد وليس أيّ أمر آخر».
ووسط حبس الحاضرين أنفاسهم في انتظار أن يكشف فيلتمان عن هذا الشيء الأساسي الذي يمكن أن تفعله «١٤ اذار»، قال «جيف»: «هناك مهمة جوهرية يجب تنفيذها، وهي أن تعمل «١٤ آذار» بشتى السبل على سحب الجنرال عون من حضن «حزب الله». ليس المطلوب أن يُشهِر العداء لنصرالله، يكفي الاتيان به الى منطقة في الوسط».
تحدّث جيف طويلاً عن خلفيات نظريته وسط استهجان الحاضرين، خصوصاً المسيحيين. وتساءل هؤلاء مستغربين: «هل يُعقل أنّ واشنطن تقترح علينا مكافأة عون على علاقته بـ»حزب الله» ومحور سوريا وإيران، في حين أنه يفترض على الاميركيين مكافأة صمودنا طوال المرحلة الماضية ضدّ هذا المحور، حيث دفعنا ثمن ذلك شهداء اغتيلوا وحجزاً لحريتنا».
غادر فيلتمان آنذاك بيروت تاركاً وراءه إحباطاً داخل البيئة القيادية الضيّقة لـ«١٤اذار» التي تقصّدت كتم الامر، مع إبداء صرامة في قرارة تفكير أقطابها على إهمال وصية جيف لإغراء عون وجذبه للإقامة سياسياً في منطقة تقع خارج حارة حريك.
العام الماضي شهد «بيت الوسط»، أيْ المكان ذاته الذي كان تحدث فيه فيلتمان عن نظرية «جذب عون»، احتفالَ قَص قالب الحلوى الخاص بميلاد الجنرال. صورة الحريري الى جانب عون المحتفى بميلاده، أيقظت بلا شك داخل ذاكرة أقطاب «١٤ آذار» ولا سيما منهم خصوصاً الموارنة، مشهد فيلتمان لدى مخاطبتهم قبل نحو ستة أعوام عن ضرورة مغازلة عون، وبدا لهم أنّ الحريري يطبق خريطة طريق جيف بمفعول زمني رجعي نحو الرابية.
طبعاً هناك شك في أن تكون نظرية فيلتمان لا تزال حية في واشنطن، بدليل الحماسة التي أبداها سلفه ديفيد هيل أخيراً لمصلحة تعريب فكرة ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية. ومع ذلك يمكن إنشاء صلة بين النظريّتين القديمة الخاصة بفيلتمان والتي تخدم حظوظ عون الرئاسية، والجديدة المتصلة بهيل والتي تحضّ على انتخاب فرنجية. ومفادها أنّ كلتا الفكرتين تنتميان لنظرية التسلّل الى ما وراء خطوط الخصم، وهو هنا دائماً «حزب الله».
كان الحريري، بحسب كلّ التسريبات، صادقاً في ترشيح عون، ولكنّ السعودية لم تستسغ الفكرة ورأت في ترشيحه خدمة مجانية لإيران في لبنان لا داعي لها في ظروف الاشتباك العربي مع النفوذ الايراني في المنطقة. وربما جاء ترشيح فرنجية في جانب منه ليعوّض خسارة فرصة التسلّسل عبر عون الى ما وراء خط الخصم عن طريق تنفيذ الخطة نفسها بواسطة فرنجية.
وساعد في تعزيز هذا الخيار أنّ إسم فرنجية حليف دمشق وحارة حريك، يمتلك مواصفات تخفيفيّة من وجهة نظر الرياض، منها أنّ خلفيّته العربية أوضح من خلفيّة عون، وأنه في مقابل انتمائه إلى بيئة العلاقة الموروثة مع عائلة الأسد، فهو أيضاً من بيئة نظام «الطائف» ولعائلته إرث من العلاقة مع العائلة الملكية السعودية.
وعلى رغم محاولة جعجع في إطلالته التلفزيونية أمس الأوّل القفز عن هواجس وحسابات حساسة ثارت كردّة فعل على ترشيحه عون في كواليس سياسية إقليمية وداخلية، لكنّ ذلك لا يعني أنها لم تعد موجودة، وأنه لن تظهر تعبيرات تؤشر اليها في المدى المنظور سواءٌ داخل لبنان او خارجه.
وأبرز هذه التوجّسات يتحدث عن نقطة حساسة تُعبّر عنها جهات لبنانية وخارجية همساً، مفادها أنّ تكتل المسيحيين في هذا الظرف على أساس أنه في مقابل السنّة والشيعة والدروز، سيخدم مشروع فدرلة لبنان. وثمّة اقتناع لدى هذه الجهات بأنّه حتى إشعار آخر يجب الحفاظ على تنوّع المسيحيين سياسياً خدمة لوحدة لبنان ضمن «اتفاق الطائف».
وفي كلّ الحالات فإنّ ترشيح عون دخل الآن مرحلة انتظار حتى اتضاح أمور اساسية عدة، أبرزها:
أولاً – حسم الاتفاق على وفد المعارضة السورية الى جنيف. فدمشق على الأقل معنية بانتظار اجتماع جنيف؛ فإذا سارت الأمور فيه حسبما تريد، فهي قد تُسهّل إنهاء الازمة الرئاسية في لبنان. وربما تُساير تسوية الحريري – فرنجية.
أما إذا أصرّ السعودي والغربي على أن يقتصر تمثيل المعارضة في جنيف على الوفد الذي أنتجته اجتماعات الرياض، فإنّ دمشق ستعمد حينها إلى ترك السعودية وجهاً لوجه في ازمة الرئاسة اللبنانية مع طهران. ويُتوقع عندها أن تضغط لسحب فرنجية لمصلحة عون وذلك لإفساح المجال لمزيد من المواجهة الاقليمية على الساحة اللبنانية.
ثانياً – انتظار نتائج زيارة الرئيس الايراني حسن روحاني لباريس، حيث يسود توقع أن يفاتحه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بأن تضغط طهران على «حزب الله» لدعم ترشيح فرنجية في مقابل تنازلات محدّدة تقدّمها باريس في الملف السوري.
ثالثاً – إنتظار إعلان الحريري ترشيح فرنجية رسمياً.
والواقع أنّ أحداً لا يتوقع أن يحدث خلال الفترة المنظورة أيّ اختراق لحال الانتظار المكثفة التي ستسود على جبهة أزمة الفراغ الرئاسي في الفترة المنظورة.