كتب محمد بلوط في صحيفة “السفير”:
لولا البيان الصادر عن وزارة الداخلية اللبنانية السبت الماضي، لما كان معلنا، ولا معروفا، أن هبة المليار دولار السعودية للبنان، غداة اقتحام عرسال وأسر العسكريين، قد ماتت، على مسافة قريبة من وفاة صاحبها الملك عبدالله بن عبد العزيز.
هكذا، وبسطرين مقتضبين، انهت وزارة الداخلية الرحلة الطويلة للهبة السعودية الثانية ذات المليار الواحد لمكافحة الارهاب. النعي ورد عرضا في بيان خصصته الوزارة السبت الماضي، لتعليل إلغاء عقود لتجهيز مطار بيروت تقنيا، بانقطاع التمويل المقرر لها عبر الهبة السعودية الثانية، وتوقفها «لاسباب تتعلق بالواهب» من دون ان توضح ماهيتها، فيما كان ينبغي أن يصدر الاعلان عن الرئيس سعد الحريري، الذي حضر خصيصا الى بيروت يوم الجمعة في الثامن من آب 2014، للاعلان من السرايا الكبيرة بأنه يحمل هبة المليار المخصصة «لمواجهة الارهاب»، بعدما وضعها الملك عبدالله في عهدته شخصيا، وليس في عهدة الحكومة اللبنانية، من أجل تجاوز الاجراءات البروتوكولية، وبالتالي التفاهم على آلية سريعة لصرفها، وفق احتياجات المؤسسات العسكرية والأمنية اللبنانية.
غير أن البيان نفسه الصادر عن وزارة الداخلية، ترك للحكومة اللبنانية مسؤولية البحث عن مصادر تمويل اخرى للوفاء بالعقود الموقعة (تصل الى نحو ٧٠٠ مليون دولار)، وأبرزها تلك المتعلقة بتسليح الجيش اللبناني، خصوصا بطائرات تنسجم واهداف الحرب على الارهاب، وعلى الارجح، ستضطر الحكومة الى إلغاء تلك العقود في ظل واقع الأزمة المالية والاقتصادية.
ماذا عن «الاسباب التي تتعلق بالواهب» لتعطيل هبة المليار؟
ينبغي البحث عنها في الخلافات المتفاقمة داخل الاسرة الحاكمة في السعودية حول من ينبغي له ان يمول «الهبة»، سواء من المالية العامة السعودية، او من ورثة الملك الراحل عبدالله.
وفي المعلومات، أنه عندما توفي الملك عبدالله في الثاني والعشرين من كانون الثاني الماضي، جرى حصر ارثه المقدر بـ ٣٨ مليار دولار، وقد تبين ان نصف المبلغ قد جرى تخصيصه، بقرار من الملك عبدالله قبل وفاته، لمؤسسة الملك عبد العزيز العالمية للاعمال الانسانية. كما تبين انه كان قد مول هبة المليار، تحت اشراف الرئيس الحريري، من ماله الخاص، وليس من المالية العامة، وهو ما تدفع به المالية العامة السعودية في معرض تبرير قرارها القاضي بالتوقف عن تمويل الهبة.
ووفق معلومات «السفير»، فان الورثة يطالبون المالية العامة بتعويضهم المبالغ التي صرفت في اطار هذه الهبة. وهناك سجالات فقهية وشرعية تدور في المحاكم السعودية بهدف تحديد الجهة السعودية التي ينبغي ان تمول عقود التسلح التي ابرمها لبنان، علما انه عندما تمت الاستعانة برئيس الديوان الملكي السابق خالد التويجري اعطى جوابا يصب في خانة إلزام ورثة عبدالله بتمويل الهبة وليس الديوان او وزارة المال!
وكانت رحلة «المليار» قد بدأت في آب ٢٠١٤، عندما اضاف الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز هبة عينية من مليار دولار، الى هبة المليارات الثلاثة لتجهيز الجيش اللبناني في تشرين الثاني ٢٠١٣عن طريق الفرنسيين حصرا. على هذا الأساس، عاد سعد الحريري فجأة الى بيروت، ليبدأ في ظلال الهبة الجديدة حملة سياسية واعلامية، بدا معها وكأنه رئيس الوزراء الفعلي، حيث كان يجتمع بقادة الاجهزة الامنية والعسكرية، ليخص كل قطاع بحصة من المليار الذي كان الواهب السعودي قد وضعه تحت عنوان «مكافحة الارهاب»، تعويضا عن تعثر هبة المليارات الثلاثة وتأخر تسليح الجيش اللبناني، في ساعات معركة عرسال الحرجة مطلع آب ٢٠١٤.
وبحسب المعلومات المتوفرة لـ»السفير»، لم تتجاوز الاعتمادات الحقيقية التي تم صرفها من المليار دولار اكثر من ٣٠٠ مليون دولار، فيما كانت اللوائح الاولى لتوزيع الهبة المفترضة، قد رصدت أكثر من ٥٠٠ مليون دولار للجيش اللبناني، ٢٥٠ مليون دولار للامن الداخلي، و١٥٠ مليون دولار للامن العام، ونحو ٥٠ مليون دولار لجهاز امن الدولة. وكان الامن العام الأسرع بين المؤسسات اللبنانية في تمويل العقود التي اقترحها (110 من 150 مليون دولار)، اذ استطاع بعد شهرين من انطلاق الهبة، تنظيم مناقصات وإبرام عقود، وتمويل مشاريع إعادة التجهيز، وأبرزها جواز السفر البيومتري.
وانفقت الحكومة اللبنانية ما يقارب ١٢٠ مليون دولار على مؤسسة قوى الأمن الداخلي واجهزتها. ودفعت ١٠ ملايين دولار من الاعتمادات المرصودة للجيش، دفعة اولى لتمويل عقود تجهيز وتسليح رئيسية مع الولايات المتحدة.
لكن الجيش اللبناني سيكون اول من يدفع ثمن اضمحلال الهبة، بتجميد بعض العقود التي تم توقيعها لتمويلها من المليار دولار. اذ وقع لبنان فور الحصول على الهبة، عقدا مع الولايات المتحدة في 19 ايلول ٢٠١٤، لشراء ١٨ مروحية نقل خفيفة من طراز «هيواي – ٢» بقيمة ١٨٠ مليون دولار. وفي 4 حزيران ٢٠١٥، وقع عقدا آخر لشراء ألف صاروخ «هيل فاير 2» المضاد للدروع بقيمة ١٤٦ مليون دولار، و٦ طائرات «سوبر توكانو»، وقع لبنان عقدا لشرائها في 9 حزيران ٢٠١٥ بقيمة ٤٦٢ مليون دولار. والطائرة الاميركية الصغيرة، مدنية في الاصل اجرى المصنع تعديلات عليها، واضاف محركا ثانيا لها، لكي تتمكن من حمل كميات اضافية من الاسلحة، وهي تقوم بمهمات استطلاع واسناد جوي، ويبلغ مدى عملها ١٨٠٠ كلم، وهي مثالية لعمليات مكافحة الارهاب.
وتتضمن الصفقة تجهيز «السوبر توكانو» بصواريخ «هيدرا ٧٠» موجهة، ومنظومة ناثرة شهب مضادة للصواريخ. وفي غمرة التفاؤل ايضا بوجود تمويل سعودي، وقع اللبنانيون في ٢٢ تموز ٢٠١٥عقدا مع الولايات المتحدة لشراء ١٠٠٠ صاروخ «تاو» مضاد للدروع، و٥٠٠ صاروخ «تاو» مضاد للتحصينات، وخمسين قاذفا بـ٢٤٥ مليون دولار. وتبلغ قيمة المشتريات اللبنانية من الولايات المتحدة ما يزيد عن المليار دولار، في حين ان حصة الجيش الاولية من هبة المليار، لم تكن تتجاوز نصف المليار، من دون ان يعرف، ما اذا كان الفائض عن الحصة، يملك تمويلا مستقلا عن المليار، وخطة مسبقة لتمويله، خصوصا ان أيا من الاسلحة المتعاقد عليها لم يجر تسليمها حتى الان.
وبحسب مصادر واسعة الاطلاع، فان آلية صرف الاعتمادات وتمويل العقود، كانت تمر قبل كل شيء لدى الجانب السعودي وليس لدى اي طرف لبناني، وان الرئيس سعد الحريري لم يكن سوى الواجهة السياسية والاعلامية في لبنان. وتقول المصادر ان العروض والملفات الفنية كانت ترسل الى السعودية لدرسها، والموافقة على شرائها، قبل ابرام اي عقد من قبل السلطات اللبنانية، مع اي من الدول، مما يعني ان كل العقود المبرمة قد حازت موافقة سعودية مسبقة.
وبحسب المعلومات فان اللبنانيين تلقوا وعودا كثيرة، خلال المراجعات مع الجهة المشرفة على الهبة، لتمويل العقود، وتحرير الارصدة المطلوبة، من دون ان يصل منها سوى الدفعة الاولى، التي لم تتجاوز عشرة ملايين دولار.