هل أفلست روسيا فيما لا يزال الأمر سرا طي الكتمان؟ أم أن سيد الكرملين يعلم من مستشاريه أن مليارات الدولارات في خزائن البنك المركزي الروسي في طريقها للنفاد؟ وهل التراجع الشديد في قيمة الروبل لا يتعدى تقلبات اقتصادية عنيفة ولا يرقى للانهيار كما وصفها المتحدث باسم فلاديمير بوتين وحكومته؟ أم أن المشكلة أكبر من ذلك وأعمق؟ وإلى أي مدى سيكون انخفاض العملة الروسية بداية النهاية لبرامج بوتين للرعاية والضمان الاجتماعي التي دفعت الطبقة المتوسطة والموظفين الحكوميين إلى التحلق حوله كل هذه السنين؟ وهل يمكن بالفعل أن تصدق توقعات أليكسي كودرين وزير المالية السابق والرئيس الحالي للجنة المبادرة المدنية بأن العام الحالي عاما كارثيا على روسيا بكل المعايير؟
وسط كل تلك التساؤلات يظل السؤال الأكبر – على الأقل بالنسبة لللرئيس الروسي فلاديمير بوتين – قائما وهو: كيف سينعكس كل ذلك على الآلة العسكرية الروسية، فالموارد تتقلص وعليه الاختيار بين تمويل احتياجات شعبه أو تعزيز آلته العسكرية والحفاظ على جبروتها.
أسئلة كثيرة لم يفجرها فقط التراجع الكبير في قيمة الروبل في مواجهة الدولار واليورو، وانخفاضه لأدنى مستوى في مواجهة العملة الأمريكية منذ 12 عاما، وإنما فجرها أكثر الوضع الاقتصادي الحرج الذي يمر به الاقتصاد الروسي، وتقلص الخيارات المتاحة أمام البنك المركزي للقيام بعملية إصلاح حقيقية في ظل تواصل انخفاض أسعار النفط وترافق ذلك مع تآكل رصيد موسكو من العملات الأجنبية.
وتعتبر تصريحات أليكسي كودرين وزير المالية السابق خلال لقاء صحافي مع وكالة “إنترفاكس” الروسية خير دليل على الوضع الروسي فقد ذكر أن عددا من المختصين – هو من بينهم – اعتقدوا قبل فترة أن الاقتصاد الروسي وصل بالفعل إلى القاع أو كما يقول البعض تجاوز ذروة الأزمة، ولكن ما نراه اليوم أسوأ، فالوضع الحالي غير مستقر، وهناك مشاكل خطيرة وجدية، وأسعار النفط تتراجع وإذا استمر الانخفاض ستة أشهر أخرى فإننا سنواجه أوضاعا شديدة الصعوبة.
وبالفعل بدأت هذه الصعوبة تطل برأسها خلال الأيام القليلة الماضية، فالروبل تجاوز في انخفاضه أمام نظيره الأمريكي الخطوط الحمراء المحددة من “المركزي الروسي” وهي 80 روبلا لكل دولار، إذ وصل في تراجعه إلى 86 روبلا لكل دولار.
تراجع كان من الخطورة إلى الدرجة التي دفعت برئيسة البنك المركزي الروسي إلى إلغاء مشاركتها في منتدى “دافوس” والبقاء في موسكو لمتابعة الوضع عن كسب.
الدكتورة إلينا كارمنشي المختصة في شؤون الاقتصاد الروسي تعلق على تراجع قيمة الروبل قائلة، إن العملة الروسية مرتبطة في تحديد قيمتها بأسعار النفط، وتراجع أسعار البترول في الأسواق العالمية سيؤدي إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الروبل وتقلص العوائد الحكومية، وسيستلزم الأمر خفض الإنفاق الحكومي.
وأشارت لـ “الاقتصادية”، إلى أن تراجع قيمة الروبل يعني أن الاقتصاد الروسي سينكمش وسينعكس هذا حتما على أسعار المستهلكين، وإذا كان البنك المركزي قد وضع معدل 11 في المائة سقفا للتضخم فإن استمرار انخفاض الروبل ربما يدفع معدل التضخم إلى تجاوز معدل 15 – 17 في المائة، ما يعني أن المستهلكين سيكونون “الضحية”.
وتزداد المشكلات حدة من جراء تراجع الروبل الذي خسر نحو 60 في المائة من قيمته في مواجهة الدولار منذ عام 2014، وحاليا تراجع بنحو 22 في المائة مقارنة بأعلى سعر بلغه في العام الماضي.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن جزءا كبيرا من مكونات الصناعة الروسية يتم استيرادها من الخارج، ما سيرفع أسعار كثير من المنتجات الروسية، ويمثل تحديا كبيرا للمصدرين الروس خاصة إلى أسواق روسيا التقليدية في بلدان آسيا الوسطى حيث يواجهون تحديات شرسة من المنتجات الصينية، فإن هذا تواكب أيضا مع انخفاض الأجر الحقيقي للطبقة العاملة وتراجعه بنحو 10 في المائة مقارنة بعام 2015، ووفقا للتصريحات الرسمية يوجد حاليا 23 مليون روسي يمثلون 17 في المائة من إجمالي السكان يعيشون تحت خط الفقر الرسمي وهو 170 دولارا في الشهر
وحول الاستراتيجية الروسية للتعامل مع الانخفاض المتواصل في قيمة الروبل، أوضح لـ “الاقتصادية”، الدكتور روبرت بروك أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز، أن الروبل يواجه تحديات كبيرة حتى قبل انخفاض أسعار النفط، وعلينا أن نتذكر أنه آخذ في التراجع منذ سنوات، حيث لعبت العقوبات الدولية من جراء ما يعتبره البعض احتلالا روسيا لبعض المناطق الأوكرانية دورا مهما في خفض قيمة العملة الروسية.
وقال بروك إن البنك المركزي الروسي ونظرا للفوائض المالية التي كانت لديه عندما كان سعر برميل البترول نحو 150 دولارا اعتاد أن يواجه انخفاض قيمة الروبل أمام الدولار، بسحب الدولارات من الأسواق عبر عملية شراء كثيفة وقد استنزفت تلك العملية مع مرور الوقت ما يراوح بين 300 و400 مليار دولار من الاحتياطيات النقدية، لكن منذ 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 توقف “المركزي الروسي” عن تبني تلك الاستراتيجية، وترك الروبل يحدد مصيره بذاته دون تدخل منه.
وأشار بروك إلى أن التراجع الأخير للعملة الروسية على الرغم من أنه الأسوأ في تاريخها إلا أن موسكو قررت عدم التدخل، لعاملين الأول أن التدخل سيرسل برسالة شديدة السلبية للأسواق بأن الوضع الاقتصادي “كارثي”، ولذلك فضلت ألفيرا نابيولينا رئيسة البنك المركزي الروسي عدم الضجيج، والعامل الثاني أن خزائن البنك المركزي الروسي لم يعد فيها ما يكفي من احتياطيات مالية.
ولكن ما حقيقية وضع الاحتياطيات النقدية الروسية وإلى أي مدى تراجعت أخيرا؟ يشير بعض المطلعين على بواطن الاقتصاد الروسي بأن هناك مخاوف متزايدة – على الرغم من نفي موسكو لها – بأن الاحتياطيات الروسية تقترب من النفاد. وكانت تصريحات بيل بروديل الرئيس السابق لأحد أبرز صناديق التحوط الروسية على هامش منتدى “دافوس” صريحة وواضحة إذ قال إن إجمالي الاحتياطي الروسي الرسمي 368 مليار دولار، ولكن علينا أن نتذكر أن بينها 150 مليارا وضعت جانبا لمساندة الروبل إذا واصل التراجع في مواجهة الدولار، ومن ثم فإن رقم الـ 368 مليارا رقم زائف وغير دقيق.
ولكن إذا كانت الاحتياطيات الروسية تتراجع بشدة فعلى من يعول بوتين في إنقاذ الروبل من محنته؟، هنري أويلي كبير الباحثين في قسم الأبحاث في بنك إنجلترا يعتبر أن تراجع الاحتياطيات المالية الروسية، وعدم بروز مصادر أخرى للنقد الأجنبي في ظل تراجع أسعار النفط، يجعل مصير ليس فقط الروبل في مهب الريح وإنما الاقتصاد الروسي ككل.
وأضاف أويلي لـ “الاقتصادية”، أن الحد الأدنى لتكلفة إنتاج برميل النفط في روسيا 15 دولارا للبرميل، وتراجع الأسعار عن هذا الحد يعني عدم قدرة موسكو على مواصلة الإنتاج والانسحاب من السوق، بل إنه عند الاقتراب من هذا السعر أي معدل 20 – 22 دولارا للبرميل سيتطلب الأمر سحبا مكثفا من الاحتياطي النقدي لتعويض العجز المتزايد في الموازنة، ولكن حتى تحين تلك اللحظة، التي ستمثل نقطة تحول شديد الخطورة للاقتصاد الروسي، فإن الحد من انهيار الروبل يتم عبر دعم شركات التصدير الروسية للحكومة بطريقة غير مباشرة.
وأشار أويلي إلى أن أغلب هذه الشركات الكبرى تهيمن عليها “الأوليجارية” الروسية وهم طبقة الأثرياء المرتبطين بالكرملين بشكل مباشر، فأغلب هذه الشركات تقوم حاليا بتحويل جزء كبير من عوائد التصدير بالدولار أو اليورو إلى الروبل في نهاية كل شهر لسداد ما عليها من ضرائب حكومية، وحتى الآن أثبتت تلك الطريقة فاعلية لمنع الروبل من الانهيار، لكن إلى أي مدى يمكن أن تنقذ تلك “المشاعر الوطنية” الروبل من محنته مستقبلا علينا أن ننتظر ونرى.
لكن هذا المستقبل يظل مشحونا بكثير من التوقعات السلبية بالنسبة للروبل الذي يتراجع بمعدل روبل أمام الدولار مع كل انخفاض في سعر برميل النفط بمقدار دولار واحد، ولهذا يتوقع أغلب المحللين الماليين أن يراوح سعر الروبل للدولار بين 90 و95 إذا ما بلغ سعر برميل النفط 20 دولارا للبرميل.
لكن السؤال الذي يؤرق بوتين وأقطاب المؤسسة العسكرية الروسية هو: كيف سينعكس هذا التراجع في قيمة الروبل على وضع الآلة العسكرية الروسية خاصة في ظل قتالها المباشر على الجبهة السورية وغير المباشر في أوكرانيا؟
الدكتورة شارلي بروك أستاذة السياسة الدولية في جامعة لندن تعتقد أن تراجع قيمة الروبل سينعكس على المؤسسة العسكرية الروسية من عدة جوانب أبرزها توقف عملية التحديث الجارية للعسكرية الروسية، وهذه العملية كانت ضرورية للغاية فالجيش الروسي في جزء كبير منه لا يزال تقليديا، ولم يختبر في حرب حقيقية والمعركتان اللتان خاضهما في الشيشان لم يكن أداؤه جيدا، والحرب في جورجيا لم تكن معيارا حقيقيا، ولذلك لجأت موسكو إلى حروب بالوكالة في بعض المناطق كان الهدف منها إتاحة الفرصة لتطوير الجيش الروسي، خاصة في ظل الفوائض المالية الضخمة نتيجة سنوات من ارتفاع أسعار النفط، والآن سيكون من الصعب على القيادة الروسية المضي قدما في إكمال عملية التحديث.
وتتوقع بروك أن يؤدي تراجع الوضع الاقتصادي الروسي إلى فقدان القدرة على تمويل المدارس العسكرية الروسية التي تبلغ 65 وخفضها إلى عشر فقط، وهذا سيكون له تأثير على الأمد الطويل فيما يتعلق بمعدل القادة إلى الجنود في هيكل الجيش الروسي، ولكن هذا لا يعني أن موسكو ستنسحب من مناطق النزاع التي تورطت فيها إلا أنها بالتأكيد لن تستطيع أن تنفذ كل مخططاتها، ولن تكون سخية في عطائها العسكري.