رائد الخطيب
مؤشرات الفقر التي تقضُّ مضاجع طرابلس، لا تقتصر ارتداداتها السلبية على المدينة فحسب بل تتعداه الى مساحة أوسع.
فالفقراء في العاصمة الثانية يشكلون نحو 57 في المئة من تعداد السكان البالغ نحو 550 ألف نسمة، فيما تعدت نسبة البطالة الـ35 في المئة. علما ان طرابلس تحتاج سنوياً الى توفير ما يقارب 2500 وظيفة الى 3000 والمتوافر منها اليوم اقل من 400 فرصة عمل، وهو ما يرفع تعداد العاطلين من العمل الى نحو 15000 شاب وشابة من قوى الانتاج، مع توقعات بوصول الرقم الى نحو 30000 عاطل من العمل بحلول العام 2020، في ما لو استمرت العاصمة الثانية تنأى بنفسها عن أن تكون بيئة جاذبة للاستثمار.
القلق على وضع العاصمة الثانية، وخطورة تفاقم «جيش» العاطلين من العمل، بات حديث أروقة السياسيين المعنيين في المدينة والفعاليات الاقتصادية فيها. وعلى هذا الأساس، يمكن تأكيد خطورة الأمور، مع الزيارات المتكررة التي يقوم بها منذ أشهر وفد بعثة البنك الدولي الى العاصمة الثانية، الى الفعاليات الاقتصادية لوضع حدٍ لمرضِ البطالة المستشري طرابلسياً، والذي يمكن أن يستثمر بشكل يؤثر فعلياً على الأمن المجتمعي.
مسؤولة برامج التنمية البشرية والفقر في البنك الدوليفي لبنان، حنين السيد، تقول «نعم قمنا بجولات عدة على المسؤولين في الشمال وطرابلس تحديداً، لتقديم برنامج مساعدة تقني وفني، بالنسبة لمسألة التوظيفات وايجاد فرص عمل، وطبعاً هذا هو هدف الزيارات التي نقوم بها». وتضيف في اتصالٍ مع «المستقبل»، ان الزيارات تستهدف تحديد القطاعات الاستيعابية، وكذلك المشاريع وفقاً للأولويات لدمج الشباب والشبات في سوق العمل، والحد من الفقر المستشري.
ولفتت السيد الى أن البنك الدولي يقوم في المرحلة الأولى بعمليات تقويم للوضع من أجل وضع خطة، وهي لا تشمل مساعدات مالية بل وضع استراتيجية، بالتعاون مع وزارات عدة معنية بالأمر وعلى رأسها وزارة الاقتصاد والتجارة، التي عقدت مجموعة من الاجتماعات لاستطلاع الأمر. وأوضحت أن «لا أرقام محددة لعدد العاطلين من العمل، لكن الوضع سيئ للغاية، فنحن نعرف أن نسبة البطالة على المستوى يفوق الـ30 في المئة، وبالطبع الوضع في العاصمة الثانية أصعب… نحاول قدر الامكان التقليل من المعوقات لاطلاق خطة للنهوض وتفكيك المشكلات أمام قيام المشاريع، ولا سيما أن جزءاً من هذه الأمور التي تجب معالجتها تكمن في بعض التعليم المهني، الذي لا يلبي سوق العمل.«
وتكشف السيد ان أن تقريراً سيضعه خبراء البنك بعد انهاء الجولات المكوكية في العاصمة الثانية، وتتوقع انجازه في ايار المقبل، و«سيشكل المرحلة الاولى من عمل البنك والمنصة الرئيسة التي يمكن البناء عليها، وبعدها يمكن بعدها إن كان الأمر يحتاج الى تدخل مالي من البنك الدولي». وتوضح أن فريقاً للعمل تشكل من مجموعة ممثلين عن الوزارات المعنية بالتعاون مع خبراء البنك، يعقد اجتماعات لهذا الأمر.
وتلفت السيد الى أن جزءاً من العمل لبعثة البنك الدولي يتركز على موضوع المنطقة الاقتصادية التي تحققت، والتي تشكل لها مجلس ادارة برئاسة الوزيرة السابقة ريا الحسن، فـ»نحن سنعيد اجراء دراسة الجدوى الاقتصادية التي هي موجودة قبل انشائها وطبعاً تغيرت الامور والوقائع، وخبراؤنا ينسقون مع الوزيرة الحسن على هذا الاساس. ولفتت الى أن فريقاً آخر من البنك الدولي يجري تقويماً لموضوع الارث الثقافي، و«طبعاً عمله منفصل عن عمل البعثة التي تقوم بعملية وضع تقرير لكيفية الحد من البطالة وفتح أسواق العمل».
من جهته، مصدر طرابلسي معني اوضح لـ«المستقبل»، ان مشروع الارث الثقافي سيعاود الانطلاق مجدداً مع تلزيم المشروع للمرحلة الحالية والمتعلقة بموضوع سقف نهر أبو علي الى شركة «أبو عزي« بعد توقف شركة «جينيكو«. وقال إن «الأحداث الأمنية أوقفت العمل بهذا المشروع، بالإضافة الى التعديات الواضحة على المشروع والتي يقوم بها بعض الشبيحة، والتي لن تتكرر خصوصاً أننا تلقينا دعماً بمؤازرة استكمال المشروع الذي يصب في مصلحة العاصمة الثانية، ويفتح مجالاً كبيراً لسوق العمل».
يشار الى أنه وفقاً الى آخر تقرير لوزارة الشؤون، اعتبرت أن طرابلس مدينة فقيرة مع جيوب رفاه: ظاهرة الفقر والحرمان في طرابلس واسعة الانتشار، ومعقدة ومتعددة الابعاد والتجليات، بحيث لا يصح وصف الوضع بأن هناك جيوباً للفقر والحرمان يمكن عزلها عن بقية المدينة، والتعامل معها موضعياً من خلال مشاريع محدودة النطاق، وما يمكن اعتباره طبقة وسطى وما فوق، لا تزيد عن 20 في المئة من اجمالي سكانها يتركزون اساساً في الحيين الحديثين بين النطاقين البلديين لطرابلس والميناء، وبعض الجيوب الصغيرة المنتشرة في احياء أخرى، وبالتالي يستحيل فصل سياسات مكافحة الفقر والحرمان فيها عن مسار عملية التنمية الشاملة في المدينة كلها. كما أن ابعاد الفقر المختلفة متلازمة ومترابطة بقوة. وبناء عليه لا يمكن التصدي لبعض ابعاد الفقر واغفال ابعاد أخرى، بل ثمة حاجة الى التدخل المتكامل، وهو ما يؤكد الملاحظة السابقة وبالتالي ووفقاً للتقرير، ينبغي:
تقليص التفاوت على مستوى المدينة، واعتبار ذلك هدفاً رئيسياً: إذ أن ثمة تفاوتاً كبيراً بين احياء المدينة، وتراوح نسبة الاسر المحرومة بين حد اقصى هو 87 في المئة في حي باب التبانة – السويقة، وبين 19 في المئة في حي بساتين طرابلس. اي ان نسبة الحرمان في الحي الاكثر حرمانا مقسومة على نسبة الحرمان في الحي الاقل حرماناً، تبلغ 4،6 اضعاف وهذا قياس بسيط للتفاوت، يمكن اعتماده لرصد مستوى النجاح في تقليص الفجوة بين الأحياء والسكان.
ضرورة تنفيذ مشاريع كبرى للتنمية الاقتصادية: ان النهوض بالدورة الاقتصادية المحلية من خلال عدد من المشاريع الكبيرة المدروسة في اطار خطة اقتصادية – تنموية وطنية امر ضروري جداً، اذ يحكم حجم المشكلة في طرابلس، لا يمكن التصدي لها من خلال المشاريع الصغيرة وحدها، بل من خلال ربطها وربط التدخلات القطاعية والفئوية، وتمفصلها على مكون التنمية الاقتصادية الذي يلعب دوراً حاسماً في مكافحة ظاهرة الفقر .
الحاجة الى قيادة مركزية محلية قوية: المتداخل الاكثر اهمية لا بد ان يكون الحكومة المركزية نفسها، بشراكة مباشرة ووثيقة مع السلطات المحلية، حيث تكون هناك قيادة فعالة واحدة مركزية ـ محلية، تتولى قيادة وتنسيق مجمل التدخلات الأخرى التي لا بد ان يتدخل فيها ايضاً، وبقوة القطاع الخاص، ثم منظمات المجتمع المدني والمواطنون عموماً. ان مسار التدهور في مدينة طرابلس بدأ من تهميشها سياسياً وقيادياً على امتداد العقود الماضية. العلاج يجب ان يبدأ من هنا ايضا.
التنافس السياسي المحلي ضار، ويشجع على الفوضى: الهيئات والقيادات المحلية لم تنجح خلال السنوات الماضية في تشكيل اطار واحد للتنسيق في ما بينها مع ما يحمله ذلك من آثار سلبية. كما لم تنجح في ان تشكل اطاراً موحداً للتفاوض مع المانحين والجهات الخارجية، تخفف من الفوضى والازدواجية.
تغيير صورة طرابلس: الطريق الى تغيير هذه الصورة يبدأ من الاعتراف بمكامن الخلل الحقيقية في صورة المدينة كما تظهر في عيون سكانها انفسهم، وفي الحراك الثقافي والاجتماعي والاقتصادي المفقود أو الضعيف فعلياً، وفي الانفتاح المحدود والمقيد بالكثير من المحرمات ذات المنشأ السياسي، والتي تؤدي الى تآكل المدينة من الداخل، وتبرز صورتها السلبية في عيون الآخرين.
طاقات كامنة وغير مستخدمة: تختزن طرابلس من الامكانات والطاقات البشرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والمؤسسية، ما يجعلها قادرة على اطلاق دينامية تنموية تعطي نتائج فعلية في وقت قصير نسبياً. والطريق الى ذلك يكون باعتماد سياسات اجتماعية، وسياسات للتنمية الاقتصادية المناطقية، مناسبة على الصعيد الوطني. كما يمر ايضا بتبلور قيادة تنموية قوية في طرابلس نفسها تؤمن بالمشاركة، وتكون عقلها، وعينها، وصوتها، وذراعها التنموية.
تبقى الاشارة الى أن الحراك المدني في طرابلس، بدأ برفع الصوت، والقيام بعملية للبحث عن الخيارات والسبل الممكنة لوضع طرابلس على سكة النمو والتنمية، في إطار مشروع إستنهاض المدينة وطاقاتها الكامنة، ومعالجة الاختلالات المزمنة التي تسببت بتبخر العديد من الانشطة الاقتصادية وهروب الرساميل، وإنكفاء المبادرات، فهل تحقق بعثة البنك الدولي الغاية المرجوة، وهي اعادة انتاج طرابلس كبيئة استثمارية؟