أكدت دراسة انجزتها باحثة في شركة رويترز للمعلومات الاقتصادية ان عصر الغاز حل محل عصر النفط بعد توصيات مؤتمر التحكم بالمناخ الذي انعقد في باريس أواخر 2015، وأصدر توصيات يبدو انها مرشحة للتنفيذ. وهدفها الحد من حرارة الأرض بمعدّل 1٫5 درجة مئوية حتى سنة 2030، ومن ثم منع أي زيادة.
الرئيس الفرنسي اعتبر توصيات المؤتمر انتصاراً لباريس، والرئيس الاميركي شدد على ضرورة تنفيذ هذه التوصيات في خطابه عن حال الاتحاد بتاريخ 12/1/2016 وحذّر من ان عدم التنفيذ يؤدي الى كوارث بيئية، وكذلك فعلت المستشارة انغيلا ميركل. ولعلّ الأهم لتحقيق النتيجة تبني الزعماء الصينيين التوصيات، وهم اضافة الى الهند المطلوب منهم في المقام الاول خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون، من اجل تمكين المجتمع الدولي من ضبط زيادة حرارة الأرض بأقل من 1٫5 درجة مئوية قبل حلول سنة 2030.
لماذا تأكيد بدأ عصر الغاز بعد عصر النفط الذي يمكن القول إنه مستمر منذ أوائل الستينات وحتى تاريخه؟
التوصيات، كي تتحقق، تستوجب الاستغناء كلياً عن استخدام الفحم الحجري في انتاج الكهرباء، ومن بعده المازوت، كما أن ثمة تركيزاً على الاستغناء عن البنزين أو خفض الاعتماد عليه، من سبيل وسائل للنقل العام تخفف زحمة السير والاتجاه الى استعمال السيارات الهجينة أو الكهربائية.
البدائل المفترض احلالها محل الفحم الحجري في توليد الكهرباء وتوفير الطاقة كثيرة، منها الطاقة النووية، والطاقة الهوائية، والطاقة الشمسية، والطاقة المائية.
وتقنيات كل هذه البدائل متوافرة، لكن تكاليفها مرتفعة وتوسيع استعمالها على نطاق دولي يحتاج الى عشرات السنين، وكل ما يمكن الأمل فيه الحدّ من الاعتماد على النفط في السنوات المقبلة، ومنطق تكاليف التوظيف الاستثماري، والتحول في الاذواق، ووسائل النقل الجماعية – الكهربائية في غالبيتها – تتجه نحو استخدام الغاز. فالتأثيرات المناخية لهذا المصدر للطاقة، وان يكن احفورياً كالنفط، أقل ضرراً على الطقس وعلى صحة المواطنين، وتالياً الغاز هو الخيار الاول للحصول محل محطات الطاقة الكهربائية التي تشغل على الفحم، والطلب على الطاقة الكهربائية سيتزايد لان مستوجبات النقل العام والسيارات الهجينة والكهربائية سترفع الطلب على هذه الطاقة.
لقد تعدلت مواقع ثروات الغاز مع توسع اكتشافات غاز الطفال (الغاز الصخري) والولايات المتحدة الاميركية طورت التقنيات المناسبة لاستخراج الغاز والنفط من الصخور، وتوصلت الى كفاية حاجاتها في 2013 من استهلاك الغاز والتي باتت تشكل 32 في المئة من مجمل استهلاك الطاقة، كما أضافت الى انتاجها من النفط ما يساوي 4٫2 ملايين برميل يومياً من نفط الصخور بحيث صار الانتاج الاميركي على مستوى 9٫7 ملايين برميل يومياً. وبقية حاجات الولايات المتحدة من النفط تستوردها من كندا والمكسيك، وكلا البلدين عضو في منظمة التجارة الحرة لبلدان شمال اميركا مع الولايات المتحدة.
والثروات في باطن الارض في الولايات المتحدة تعود الى اصحاب الأراضي المعنية، ولذا تعاظمت اعداد منصات انتاج الغاز والنفط خلال الفترة 2011-2014 وساهمت في إتاحة فرص عمل كبيرة، كما كانت العنصر الذي دفع الاقتصاد الاميركي الى تحقيق انخفاض في معدل البطالة الى ما دون الخمسة في المئة، والتوصل الى معدلات نمو على مستوى ثلاثة في المئة.
ومع نهاية عام 2015 تبدّل هذا الوضع، فالتنافس الحاد بين منتجي الغاز والنفط الصخريين، دفع مستويات الاسعار الى الهبوط بقوة، وساهم في سرعة الهبوط وعمق الخسارة، ان اعضاء منظمة “أوبيك” تمنعوا عن خفض معدلات انتاجهم، علماً أنهم بدأوا يعانون انخفاض المداخيل والقدرات على النمو، وقد هبط سعر برميل النفط بنسبة 70 في المئة ما بين بداية 2014 ونهاية 2015. كذلك تدنّت أسعار الغاز في الولايات المتحدة الى مستوى 1.75 دولار لكل الف قدم مكعب، أي ما يعادل سعراً، على صعيد الطاقة الحرارية، لبرميل النفط يقل عن 11 دولاراً للبرميل. وللذكرى نشير الى ان ادنى مستوى لسعر النفط بلغه في 1986 عندما كانت الولايات المتحدة بدأت تتجاوز نتائج تضخم أواخر عقد السبعينات، وتقر تشريعات تشجيعية للاستثمار على نسق برنامج تاتشر في بريطانيا. وكان الرئيس ريغان ينعت الاتحاد السوفياتي بالشر المطلق على رغم محاولات الرئيس غورباتشيوف اليائسة لتحقيق تقارب مع الاميركيين، وفي حينه بدأ تفكك الاتحاد السوفياتي، بفضل انخفاض اسعار النفط والغاز.
من المؤكّد الولايات المتحدة، بعد تحقيق كفايتها من الغاز ومقاربة كفاية حاجاتها من النفط، استعادت موقع السيطرة على أسعار النفط والغاز وافسحت لتطورات المضاربة كي تساهم في خفض الأسعار للاضرار في المقام الاول بروسيا التي برزت خلال السنوات الثلاث المنصرمة كبلد التحدي للولايات المتحدة ان في أوكرانيا أم في نطاق بلدان البريكس التي مثلت، وخصوصاً بوجود الصين والهند والبرازيل وروسيا بين اعضائها، ثقلاً اقتصادياً لا يناسب التطلعات الاميركية.
لقد افلت زمام السيطرة من أيدي الاميركيين لان انخفاض أسعار النفط والغاز بدأ ينتج مفاعيل سلبية في الولايات المتحدة، ونظرة الى بعض الارقام وبعض التصنيفات توفر صورة عما نتحدث عنه.
“الفايننشال تايمس” في عددها المؤرّخ 23 -24 كانون الثاني 2015 أفردت صفحة كاملة عنوانها Shale’s Big Squeeze أي الاختناق المتبدي من صناعة انتاج الغاز الصخري، فما هي مظاهر الاختناق التي نعيدها في الاساس الى انخفاض الأسعار بسبب اشتداد المنافسة؟
انخفض عدد الموظفين والعمال في شركات انتاج النفط والغاز الصخري 86 الف عامل، أي ما نسبته 16 في المئة من عدد العاملين في هذا القطاع، وبلغت ديون الشركات المستقلة – أي الصغيرة المتخصصة بنفط وغاز الصخور وعددها 60 شركة – 206 مليارات دولار.
وفي رأي الرئيس التنفيذي لمجموعة Continental Resources هارولد هام، وشركته كانت من أولى الشركات الرائدة في مضمار انتاج النفط والغاز الصخرين، ان أزمة هذه الصناعة ستتصاعد سنة 2016. وهو يقول إن مستويات الاسعار المتدنية ستؤدي الى افلاسات عدة. وللذكر نشير الى ان شركات كبيرة مثل “اكسون موبيل”، و”شل”، و”توتال” تخلت عن استثمارات في نطاق انتاج النفط والغاز الصخريين تجاوزت الـ31 مليار دولار.
ان السعر الذي يتوقعه هارولد هام والذي يساهم في استقرار نشاط انتاج النفط والغاز من الصخور، وان على مستويات دون ما بلغته في 2014، هو ما بين 50 و60 دولاراً للبرميل.
وشركات النفط الكبرى مدينة للمصارف بأكثر من تريليون دولار وقد توجهت مؤسسات التصنيف مثل “ستاندارد اند بورز”، و”موديز” الى خفض مستويات صدقية عدد من هذه الشركات وحث المستثمرين على الابتعاد عن سنداتها. ومجريات الامور فرضت على شركات كبيرة وصغيرة عاملة في بحر الشمال، سواء في المياه البريطانية او النروجية، الى اطفاء استثمارات وايقاف أعمال بقيمة 200 مليار دولار.
في الفترة 2007-2008 عندما تفجرت الأزمة المالية العالمية، بدأت مؤشراتها بمصاعب مصرفين بريطانيين وازت قروضهما العقارية المتعثرة 150 مليار استرليني في أيلول 2007، ومن ثم برزت متاعب مصرف “ليمان براذرز” (640 مليار دولار) وشركة التأمين الاميركية (AIG) 180 مليار دولار وتبع ذلك طوفان ازمة 2008 التي لم تنتهِ بعد.
هنالك من يرون ان ديون المصارف لشركات النفط الكبيرة والصغيرة ستؤدي الى مشاكل كبيرة، قد تتحول الى ازمة كالتي شهدناها في 2008 ولا تزال مستمرة ومتمثلة بجمود النمو في اوروبا، وبدء انخفاض النمو في الولايات المتحدة، وتدني معدل نمو الصين من تسعة في المئة سنوياً الى سبعة في المئة، والصين باتت أكبر مستورد للنفط وقريباً الغاز.
اننا نرى ان فرصة انقاذ الاقتصاد العالمي من ازمة مالية ومصرفية ترتهن بارتفاع اسعار النفط الى مستوى 60 دولاراً على الاقل للبرميل، واسعار الغاز الى 6-8 دولارات لكل الف قدم مكعب، وحينئذٍ يمكن توقع انتعاش الاقتصاد الايراني والحدّ من التقشف في اقتصادات دول الخليج، وانخفاض معدلات التوتر، وربما استعادة العالم مقداراً افضل من النمو، هصوصاً ان الاقتصاد الروسي ايضاً يستعيد مقداراً من نشاطه وانفتاحه على التفاعل مع الدول الاوروبية، ودول شرق آسيا، وأخصها الهند والصين.