كتب جوني منيّر في صحيفة “الجمهورية”:
فجأةً تقدَّم ملف الانتخابات البلدية إلى الواجهة. هكذا هي الحياة السياسية في لبنان، ملفّ فضائحي جديد يحتلّ الصدارة الإعلامية ليحجبَ الرؤية عن ملفات أخرى كانت تحتلّ الاهتمام الأوّل، من دون أن يعني ذلك إيجاد الحلول للملفات التي تُنَحّى.
ملفّ النفايات مثلاً لا يزال يراوح مكانه منذ أشهر عدة في فضيحة لم تشهَدها أيّ دولة على الأرض مهما كانت درجة تخلّفها وفسادها، ولأنّ النزاع الحاصل على الانتخابات البلدية هو في حقيقته رمي كلّ فريق للكرة عند الفريق الآخر بهدف تحقيق النقاط لا بهَدف الانتصار لمبدأ الديموقراطية، بدَت الامور وكأنّ هذه الانتخابات حاصلة بعد الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء والقرار بفتح الاعتمادات المالية، لكن ما يدور في الكواليس السياسية يطرح عدداً من علامات الاستفهام.
ولأنّ المصالح السياسية هي التي تُسيّر القرارات والمواقف، انقسمت الآراء ما بين منطقين، أحدهما يدعو إلى حصول هذه الانتخابات، والثاني يراهن على عكس ذلك.
الفريق الاول الذي تعزَّز منطقُه بعد التراشق الاعلامي الذي ساد خلال الاسابيع الماضية، يَعتقد أنّه يكفي “خسائر” إعلامية جرّاء قرارات التمديد للمجلس النيابي، وبالتالي فإنّ إجراء الانتخابات البلدية يمكن أن يُعطي تعويضاً معنوياً للناس ويؤدّي الى تخفيف الضغط الشعبي عن الملفات السياسية التي لا تزال بعيدة عن الحلول وفي مقدّمها الاستحقاق الرئاسي.
ويَعتقد هؤلاء أنّ جميع الأفرقاء الأساسيين لا يريدون الاستحقاق البلدي، لكنّ كل فريق لا يريد تحمّل تبعات التأجيل، ما يَدفعه الى تأييد حصول الانتخابات وتركِ عبء العرقلة على غيره، ما يَعني أنّه في نتيجة الأمر سيدخل الجميع الى الاستحقاق البلدي رغماً عنهم.
وحسبَ هذا الفريق، فإنّ “حزب الله” المنشغل في تطوّرات الميدان السوري سيترك مهمّة العرقلة لتيار “المستقبل”، وهو لذلك باشرَ في تنظيم وضعِه في حال حصول الانتخابات البلدية وعلى أساس التوزيع نفسِه الذي اعتمده في الاستحقاق البلدي الأخير، وليتحمّل تيار “المستقبل” عبء التأجيل.
في المقابل، بدأ الفريق المؤيّد لإجراء الانتخابات يحسب بطريقة أخرى. فنتائج الانتخابات البلدية لا يمكن صرفها بكاملها على المستوى السياسي. فهذا استحقاق له وجوه إنمائية وعائلية ومناطقية وليس له وجه حزبيّ فقط. أضِف إلى ذلك أنّ هناك حاجة لاستبدال عدد من رؤساء البلديات الذين يشكو منهم “المستقبل”.
والأهّم أنّ هذا الاستحقاق سيكون الامتحانَ الاوّل لمرحلة ما بعد التفاهم الكامل بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” ما سيُفسِح المجال لاستخلاص الدروس حول المزاج الشعبي المسيحي الفعلي وقدرة التحضير الصحيح للانتخابات النيابية لاحقاً والتي تشكّل اختباراً سياسياً حقيقياً، كونها تؤدّي إلى تكوين المجلس النيابي أو البنية التحتية للنظام السياسي اللبناني.
في المقابل، يرى الفريق المعارض لحصول هذا الاستحقاق أنّ الدخول في الاستحقاق البلدي يُعتبر تهوّراً وانزلاقاً في مناخ إعلامي من دون القدرة على الوقوف في وجهه. وهذا الفريق يَعترف بأنّ تيار “المستقبل” ليس في أفضل أيامه، لا بل على العكس هو في أسوأ مرحلة له منذ تأسيسه، أضِف إلى ذلك، الأزمة المالية الخانقة التي يمرّ بها وغياب الرئيس سعد الحريري عن لبنان، وبالتالي فإنّه من الخطأ الدخول في هذا الاستحقاق من دون امتلاك الوسائل الحقيقية والفعلية لخوضه، وبالتالي فإنّ أيّ خسارة ستُترجَم على المستوى السياسي، وتحديداً على وزنِ “المستقبل” في التأثير في الاستحقاق الرئاسي. وحسب هذا الفريق، فإنّ تزامنَ موعد الامتحانات الرسمية (أيار المقبل) مع موعد إجراء الانتخابات البلدية قد يشكّل عذرًا إداريًا مقنِعًا لتأجيلها.
وعلى الضفّة الأخرى، فإنّ الفريق المعارض لحصول هذه الانتخابات والقريب من ثنائي “حزب الله” – حركة “أمل” يُبدي قلقَه من حصول الانتخابات من الزاوية الأمنية، إذ أنّ هناك استحالة لضبط كلّ مراكز الاقتراع وتأمين الحماية الأمنية لها، ما يَعني تقديم إغراءات إلى التنظيمات الإرهابية لتنفيذ عمليات انتحارية تؤدّي إلى خسائر بشرية كبيرة، خصوصاً أنّها ستتزامن مع معارك مدينة حلب في سوريا، إلّا أنّ الانعكاسات والحسابات لا تقف هنا لدى كلا الفريقين.
ففي الحسابات السياسية، سيَسعى “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” إلى خوض هذه الانتخابات موحّدين. فـ”التيار الوطني الحر” سيَدفع في اتّجاه إجراء الانتخابات النيابية فوراً بعد البلدية طالما إنّ العملية الانتخابية ممكنة، لا بل إنّ الانتخابات النيابية أقلّ كلفةً وإدارتُها أقلّ صعوبة من الانتخابات البلدية، على أن يؤدّي ذلك الى تعزيز حظوظ وصول رئيس تكتّل “التغيير والإصلاح” العماد ميشال عون الى قصر بعبدا إلى الحد الأقصى. فبعد انتخابات نيابية كاسحة لن يعود أحد قادراً على معارضة هذا الخيار.
أمّا رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي يريد من الانتخابات البلدية، وبالتأكيد من النيابية، إنهاءَ أو تذويبَ كلّ القوى والشخصيات المسيحية الأخرى، يتطلّع أيضاً إلى احتواء شارع “التيار الوطني الحر” مستقبلاً.
وهذا الهدف ليس بجديد، فمع انتهاءِ الحرب اللبنانية وخروج عون إلى فرنسا، حاولَ جعجع استمالة الحالة العونية من خلال تعيين إعلاميّين قريبين من عون في الوسائل الإعلامية التابعة لـ”القوات” (إذاعة لبنان الحر ومديرية الأخبار في المؤسسة اللبنانية للإرسال)، إلّا أنّ الخطوةَ لم تنجح بسبب الدماء الكثيرة التي سالت في “حرب الإلغاء”.
لكنّ الظروف اليوم تبدو واعدةً أكثر مِن مختلف النواحي للوصول في يومٍ ما إلى التمثيل المطلق والأوحد للشارع المسيحي، وهو ما سيَفتح أمامه باب الإمساك الكامل بالتمثيل الرسمي على مستوى مواقع المسيحيين في السلطة، بدءاً من رئاسة الجمهورية. مِن هنا أيضاً “الحساسية” المفرطة من دورٍ للعميد شامل روكز الذي يَحظى بشعبية واحترام كاملين في الشارع المسيحي.
ويتردَّد أنّ جعجع الذي لا يمانع من دخول الانتخابات النيابية من خلال البلدية يريد خوضَها بشيء من الدهاء، بحيث يعرض مقعداً واحداً في كلّ قضاء لكلّ القوى الأخرى بحيث يأتي الرفض منها.
ويَندفع هو في معركة عنوانُها انتزاع قرار التمثيل المسيحي من المسلِمين ما يُعطيه الأفضلية المطلقة في جبل لبنان، على أن يتّكئ على تصويت شيعي لمصلحة هذا التحالف رفضاً للتحالف الذي سيَعقده تيار “المستقبل” مع القوى المسيحية الأخرى. من هنا إشارات المرونة تجاه “حزب الله” في الكواليس، سواءٌ من خلال ما كشفَه رئيس تيار “المردة” النائب سليمان فرنجية، أو حتى من خلال الدور الذي يمكن عون أن يلعبَه في هذا الإطار.
لكنّ هذا لا يلغي الاستمرار في توجيه رسائل الطمأنة الى تيار “المستقبل” عبر وسطاء. وتَروي مصادر محسوبة على “المستقبل” أنّ جعجع بَعث برسائل عدة إلى الحريري في الأسابيع الماضية وفحواها أنّه مصِرّ على عدم قطعِ التواصل معه، وأنّه حقَّق بخطوته أهدافاً عدّة، منها أنّه حشرَ “حزب الله” وأبعَد “التيار الوطني الحر” عنه بعض الشيء، في مقابل استحالة وصول عون إلى الرئاسة كون خطوته لا تؤدّي إلى أيّ تغيير على مستوى “الفيتو” الخارجي الموضوع عليه.
وتقول هذه المصادر إنّ الحريري الذي استمعَ إلى هذه الرسائل بقيَ صامتاً ولم يعطِ أيّ جواب، وهو جواب سيتركه لمناسبة 14 شباط، حيث سيُضَمّن كلمتَه الأسباب التي جعلته يَندفع في مبادرته الرئاسية وإيجابياتها، والسلبيات الناتجة من خطوة جعجع، ولكنْ من دون أن يسمّيه. وفي هذا الوقت سيبقى التواصل “المستقبلي” – “القواتي” مقطوعاً.