IMLebanon

سجال الإنماء المتوازن .. اللامركزية الإدارية شرط أولي؟

infrastructure-lebanon

مارسيل محمد

منذ العام 1992 واللبنانيون يسمعون عن الإنماء المتوازن الضروري لمرحلة ما بعد الحرب الأهلية. لكن هل هناك فعلاً في لبنان إنماء متوازن، أو إمكانية لتحقيق الإنماء المتوازن؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب التمييز بين النمو والتنمية والإنماء. فالنمو هو مُعطى كمّي، يُنظر من خلاله الى كمية السلع والخدمات المنتجة خلال عام معين، وتقارن مع الكمية المنتجة في العام السابق، فنقول بأن هناك نمواً او عدم نمو وفقاً لحاصل الأرقام. اما التنمية، فهي مفهوم إجتماعي، علينا ان نستعمل معها كلمة “بشرية” على حد تعبير الخبير الإقتصادي إيلي يشوعي، الذي يقول لـ “المدن” ان “التنمية تتعلق بالبشر وحياتهم. ولقياس معدلات التنمية، هناك مؤشرات يجب ملاحظتها، تستند الى نوعية الخدمات الطبية والتعليمية ومستوى السكن والعمل وغيرها.

اما للحديث عن الإنماء، وبخاصة الإنماء المتوازن، فعلينا التحدث عن “إنماء جغرافي متوازن”، لذلك علينا ان نلاحظ الخدمات المؤمنة في العاصمة، ونقارنها بالخدمات في أي بقعة جغرافية في البلاد. وقد تختلف النسب في بعض المجالات لكن في الخطوط العريضة يجب أن تكون الخدمات وفرص العمل والبنى التحيتة ومقومات العيش متساوية بين مختلف المناطق.

قد يحصل هذا الأمر في أوروبا، حيث ينتقل الانسان من بلد الى بلد، فيشعر بأنه ما زال في البلد نفسه، لأن الخدمات متشابهة. وقد ينتقل الانسان بين الريف والمدينة دون ان يشعر بالفارق، لأن الحاجات مؤمنة بطريقة عادلة. لكن في لبنان، ينقلب الحديث عن الانماء المتوازن الى تناحر مناطقي وطائفي ومذهبي، لأن الدولة المركزية لا تملك الاجهزة والامكانيات لتحقيق تنمية متوازنة حقيقية، فهي مؤسسة بالأصل على منطق لا يقيم وزناً للمواطنة كي يكون المواطن منتمياً الى دولة تحترم حقوقه في اي بقعة جغرافية داخلها. بل مؤسسة على تشابك مصالح الطوائف التي بدورها تهتم بمناطق ذات مراكز قوّة، دون الأطراف، ويصبح الحديث عن انماء متوازن في هذه الحالة، هو ضرورة انتخابية لا اكثر. وما حديث وزير الاشغال العامة غازي زعيتر، الخميس، عن الانماء المتوازن، بلغة طائفية، سوى تأكيد على ان الدولة المركزية تنفذ اشغالها بمنطق طائفي لا بمنطق تلبية حاجات المواطنين. إذ أكد زعيتر على ان “الحديث عن انتقائية في إنجاز ملفات الأشغال الخاصة بالقرار رقم 66/2012 كما في توزيع اعتمادات الموازنة والتحيز لمنطقة دون أخرى بل أكثر من ذلك، الحديث عن استثناء المناطق المسيحية من تلك الأشغال فيه الكثير من التجني”. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده حول الانماء المتوازن، أشار زعيتر الى انه “في مطلع هذا العام قد خصص ما نسبته 20% من موازنة الوزارة لمشروع واحد في منطقة واحدة هي جبل لبنان، في قلب جبل لبنان، في المتن إلا إذا كانت هذه المنطقة لا تعتبر من المناطق المسيحية”. وهذا الكلام هو رد على اتهامات طالت الوزارة بلغة طائفية مماثلة، لا تقل خطورة عن كلام زعيتر والطقم السياسي الحاكم.

وامام هذه الصورة، يرى يشوعي بأن الحل هو اللامركزية، مع إستثناء القرارات السياسية والعسكرية والإقتصادية الكبرى، وعبر اللامركزية، “تتخلى الدولة عن بعض صلاحياتها المتعلقة بتنفيذ المشاريع، او ببعض الخدمات العامة، لصالح إدارات الأقضية على سبيل المثال، وبهذه الحالة، يتم تشكيل نوع من حكومة تنموية مصغرة على مستوى القضاء. وكل ما يُجبى من مستحقات للدولة، يبقى 50% منه لحكومة القضاء، ويذهب 50% الى الحكومة المركزية، اي الى خزينة الدولة. وحكومة القضاء تقوم بتأمين معامل للكهرباء مثلاً، إما عن طريق الشركات المحلية أو تلك الاجنبية. وفائدة هذه المعامل اللامركزية، هي كلفتها الأدنى، والتوفير في المسافات وحجم الفولت المنتقل بين المناطق، في حالة المعامل المركزية، حيث تضطر الدولة المركزية الى جرّ قوة كبيرة من الفولت عبر الأسلاك، من المعمل وصولاً الى محطات التوزيع، ثم المنازل والمؤسسات، وهذا يعني خسارة طاقة أكبر وكلفة أعلى. وعلى مستوى الصرف الصحي والنفايات كذلك الأمر، يمكن الاستفادة من الحلول اللامركزية، والتي توفر على الدولة معضلات التوافق السياسي والطائفي ومعضلة الأكلاف”.

ويؤكد يشوعي على انه “لا يمكن للوزارات الخدماتية، كوزاة الأشغال على سبيل المثال، الحديث عن إنماء متوازن في عملها، لأنه بطبيعة الحال لا يمكن للوزارة ان تلبي جميع احتياجات المناطق، حتى وان كان هناك مكاتب رسمية للوزارة في المناطق، لكن هل هناك امكانيات مادية وبشرية فيها؟ كلام الدولة المركزية عن إصلاح وإنماء متوازن بات اليوم مستهلكاً. ولم يعد أحد يصدق هذه الوعود، وبات حجم الهوة في الثقة بين المواطن والدولة كبيراً”.

إذن، الإنماء المتوازن ما يزال مطلباً بعيد المنال في ظل دولة مركزية ليس لديها وزارة تخطيط تضع المخططات المطلوبة وفق الحاجات المناطقية، وتحد من النزوح بإتجاه المدن أو من الهجرة الى خارج البلاد. فالانماء المتوازن من أهم إنعكاساته، الحد من النزوح والهجرة، بعد تأمين المقومات الأساسية للعيش في الأطراف.