قد يكون خيار ترحيل النفايات هو الحل النهائي الذي اتفقت القوى السياسية على تمريره، معطية له صفة “التصدير”، لإيهام الرأي العام ان الترحيل فيه إفادة للبنان. لكن في الحقيقة ان الترحيل هو إستيراد وليس تصديراً، لأن العملية تتضمن إستيراداً لخدمة الترحيل. لذلك، فإن لبنان يراكم كلفة إستيراد ولا يستفيد من كلفة التصدير، فلو كان لبنان يعرض نفاياته ضمن مزاد تتسابق فيه الشركات العالمية على تقديم السعر الأعلى لشراء النفايات، لكانت الإستفادة واضحة، ضمن عملية شفافة تفتخر بها الحكومة لأنها تزيد من واردات الخزينة، على عكس الغموض الذي يلف عملية الترحيل حالياً، حيث تبحث الحكومة عن مخرج لأزمتها عبر دفع كلفة باهظة للترحيل، على حساب الشعب والمال العام.
الزواريب التي تمر بها عملية الترحيل، وإنكشاف أمر الصفقة في وجهتها، سيّما الى سيراليون في افريقيا، وحديثاً الى روسيا، يُبقي باب البحث مفتوحاً. وتصاعد وتيرة الغموض مع إنكشاف وجهات جديدة للترحيل في كلّ مرّة يعيد التفكير في الحلول التي كانت مقدّمة منذ بداية الأزمة، وأهمها الشركات الخاصة التي طرحت إنشاء معامل للفرز والمعالجة، وحينها رفضت العروض بحجة الأسعار المرتفعة، والصفقات التي يستفيد منها السياسيون بحسب نفوذ كل منهم في المناطق.
لكن تعقيد الأمور بيّن ان المشكلة ليست في الشركات والعروض التي قدّمتها، بل في إدارة الملف من قبل السياسيين، والحكومة كسلطة تنفيذية. وبرأي الخبير الإقتصادي إيلي يشوعي، كان أمام الحكومة فرصة للإستفادة من عروض القطاع الخاص، لكنها رفضت العروض لأنها لم تضمن للسياسيين حصصاً كافية، ووفق ما يقوله يشوعي لـ “المدن”، فإن الشركات “تريد البدء من الصفر، لأنها ستبني معاملاً ضمن خطوات متصاعدة، وليس عبر خطوة واحدة ونهائية كعملية الترحيل”. وهذا الأمر يتيح للحكومة مأسسة الحل ومراقبته، وهذا ما لا يناسب الطبقة السياسية، بل ما يناسبها هو عقد مثل عقد سوكلين، ليس فيه ما يبقى او يفيد في المرحلة التي تلي انتهاء العقد ورحيل سوكلين. ولذلك، لم تبنِ سوكلين معامل تستفيد من النفايات. وهذا ليس مستغرباً لأن السياسة التي تدير بها الطبقة السياسية البلاد، تُفسد مشاريع القطاع الخاص، وهذا ما حصل مع سوكلين منذ تلزيمها، فسوكلين استفادت من العقد الفاسد الذي يضمن لها أرباحاً، حتى وان كان ذلك على حساب الشعب اللبناني والمال العام. فبحسب يشوعي، فإن القطاع الخاص ليس لديه عواطف وطنية، فطالما ان العقود تضمن له أرباحاً فسيسير بها.
اما عن الأسعار والتفاصيل التي قدمتها الشركات، وقيل انها مرتفعة او غير مناسبة، فكان بالإمكان تعديلها عبر التفاوض مع الشركات، لكن ذلك لم يحصل وتم الإبقاء على خيار الترحيل برغم كل الإلتباسات التي تشوبه. وبحسب يشوعي فإن الحل كان تحسين شروط الخدمات والاسعار المقدمة، وليس رفض كامل العملية واللجوء الى الترحيل.
النقاش مع الشركات لم يحصل، وفق ما يوضحه رياض الأسعد، أحد الأطراف الذين تقدموا لحل أزمة النفايات، برغم ان ما قُدّم، كان مناسباً على مستوى الكلفة ونسبة العوادم الناتجة عن المعالجة، ونسبة الميغاوات التي تنتجها المعامل وما الى ذلك، لكن السياسيين فضّلوا الحلول التي تدر عليهم تنفيعات و”عمولة”. وبحسب ما يقوله الأسعد لـ “المدن”، فإن ما وصلت إليه أزمة النفايات تدعونا الى التفكير بأن النفايات هي فرصة للبنان للإستفادة من توليد الطاقة واستصلاح الأراضي وإدخال تكنولوجيات كثيرة الى البلاد.
ويلتقي الأسعد ويشوعي في ان الطبقة السياسية تريد الكسب السريع من وراء النفايات. فالمعامل التي حملتها الشركات، تقوم على سلسلة متكاملة من التعاون بين القطاعين العام والخاص والأهالي. وهذه العملية بالنسبة للأسعد، يمكن ان تأخذ 10 سنوات، لأننا نريد التعاون مع المجتمع المحلي والبدء من الفرز في المنازل والمدارس وصولا الى الاستفادة من النفايات، فعملية الحل لا تكون من الاعلى الى الاسفل، بل من الاسفل الى الاعلى. لكن اي حل يسحب موضوع النفايات من يد السلطة السياسية، سيُرفض. ولو كان الامر غير ذلك، لكان على الدولة ان تضع خطة وطنية لمعالجة النفايات، فأين هي الخطة؟، يتساءل الأسعد الذي يؤكد على ان الثقة بالدولة لم تعد موجودة، لكن ذلك لا يمنع من إعادة التعاون إذا ارادت الدولة ذلك.
إعادة الحديث عن الشركات التي تقدمت بعروضها لحل ازمة النفايات، ليس من باب طرحها كحل بديل عن الترحيل، لأن ذلك لن يجد ترحيبا من قبل الحكومة، لكن الأمر ضروري للتذكير بأن الحكومة كانت تدفع بإتجاه خيار الترحيل منذ البداية، وضروري للفت نظر الرأي العام على ان ما يقال عنه تصدير، انما هو استيراد يضاف الى كلفة الاستيراد في قطاعات أخرى.