كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
عندما شمَّ بعضُ المسؤولين والسياسيين اللبنانيين رائحةَ المليارات الآتية من مؤتمر لندن، نسوا أنّ أزمة النازحين السوريين والفلسطينيين تُهدِّد لبنان في كيانِه: فليُعطونا المليارات والبقيّة تفاصيل!أسوَأ ما في ملف النازحين السوريين في لبنان هو بعض الطاقم السياسي الغارق في الفساد، والذي يَنتظر وصول المليارات إلى يديه ليتقاسمَ جبنة المساعدات، كما كلّ شيء آخر.
ويقول بعض المطّلِعين إنّ الوفد البريطاني الذي زار لبنان، الشهرَ الفائت، طالِباً من الحكومة اللبنانية تسهيلَ التشريعات التي تطبِّع جزئياً أوضاع اللاجئين في العمل والإقامة والتعليم والإفادة من الخدمات العامة، لم يَجد كثيراً من المواجهة أمامه، باستثناء مواقف قلّة من المسؤولين، بينهم حاكمُ مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة الذي رَفض طلبَ البريطانيين إقرارَ تشريعَين مصرفيَين يشجّعان على انخراط النازخين في سوق العمل اللبنانية.
بَعيداً عن المواقف المعلَنة إزاء ملفّ النازحين، وكلُّها تبدي الحِرص على المصلحة الوطنية، ينقسم السياسيون في لبنان واقعياً إلى ثلاث فئات:
– الفئة التي تعمل فعلاً للحدِّ من تدفُّق النازحين، إدراكاً منها للمخاطر المتأتّية من هذا الملف. وهذه الفئة ليست محصورةً بسياسيين مسيحيين.
– الفئة «المرتاحة» إلى استمرار تدفّق النازحين إلى لبنان لغايات سياسية أو طائفية أو مذهبية. وهذه الفئة ليست محصورة بسياسيين سُنَّة.
– الفئة التي ترغَب في استثمار ملفّ النازحين من خلال المواقع المتاحة لها في السلطة، أي بالاستفادة من فوضى المساعدات التي ورَدت إلى لبنان أو تلك المتوقّعة. وهنا يمكِن الحديث عن مسيحيين وسُنّة وشيعة ودروز.
ولأنّ لبنان كان موعوداً بأن يأتيَ مؤتمر لندن بدعمٍ استثنائيّ، تلقّى بعضُ المسؤولين بكثيرٍ من الليونة طلبَ الوفد البريطاني الذي جاء يُحضِّر الأرضية لِما تمّ إقرارُه في المؤتمر. ويقول مطّلعون إنّ الضغط الذي مورِسَ على حاكم مصرف لبنان وبعض الوزارات المعنية بالطلبِ البريطاني يتشارَك فيه سياسيون لبنانيون.
فهؤلاء يَهربون من المسؤولية عن فشلِهم في إدارة ملف اللاجئين عبر محاباتِهم لمسؤولين أوروبّيين وعدمِ رفض أيّ طلبٍ لهم، مخافة انقطاعِ التمويل الذي تقدّمه دوَلُهم لمشاريع هزيلة يستفيدون منها في مواقعهم السلطوية.
في معظم الحالات، تُدارُ القروض والمساعدات التي تُقدِّمها جهات دولية بواسطة هيئات وجمعيات محلّية تَرتبط مباشرةً بمسؤولين، من خلال المحسوبيات أو القرابة. وهذه الهيئات والجمعيات تستفيد من نسبةٍ معيّنة من المبالغ الواردة تصِل إلى 30% أو 35% أحياناً، ثمناً لمهمّتِها في التشغيل.
ولذلك، عندما قوبِلَت طلبات الوفد البريطاني برفضِ بعضِ المسؤولين، ولا سيّما منهم حاكم مصرف لبنان، تدخَّلَ عددٌ من الوزراء للضغط وإقناع هؤلاء بتمرير المسألة من دون إزعاج الوفد، بحيث لا يعود إلى بلاده بانطباعات سلبية تؤدّي إلى وقفِ قروضٍ ومساعداتٍ ووعود، وتجميدِ بعض المشاريع التي يتمّ تنفيذُها من خلال بعض الوزارات.
ويقول بعض المعنيين الذين رَفضوا مطالبَ الوفد البريطاني إنّ المساعدات والقروض التي يدافع عنها البعضُ تصبح بلا قيمة إذا جرَت مقارنتُها بالمخاطر التي يُراد تمريرُها في ملفّ النازحين. ومِن الأفضل أن تُلغى هذه المشاريع إذا كان الأوروبّيون يَرغبون في ابتزاز لبنان بها لتمرير ملفّ خطِر بحجم ملفّ النازحين.
ويَنتقد هؤلاء منطقَ «الشحادة» الذي يَعتمده البعض، لمنفعةٍ شخصية لا لمصلحةٍ وطنية، والذي به يُدارُ ملفّ النازحين. ويضيفون: «البلد على حافة انهيار كيانيّ، والبعض لا يهتمّ إلّا بالسَمسرات والثروات التي تتدفّق عليه وعلى المحاسيب. والمطلوب أوّلاً إيجاد هيئة محايدة تتولّى تقويمَ المشاريع المموَّلة، في ملف اللاجئين وسواه، وتقرِّر آليّة صرفِها.
فالذين يتقاسَمون جبنة النفايات والكهرباء والمحروقات والبُنى التحتية وأموالَ الوزارات والأجهزة الإدارية وسائر المرافق العامة، والذين أوصَلوا لبنان إلى دَينٍ يفوق الـ 70 مليار دولار، يستعدّون لاستثمار ملفّ النازحين بملياراته الوفيرة ما داموا في السلطة، وهذه فرصة ينتظرونها بفارغ الصبر.
ولذلك، جاءَ ضعيفاً رفضُ بعض اللبنانيين المشاركين في مؤتمر لندن. وفي تقديرِ المتابعين أنّ ما أثار القلقَ هو محاولة تمرير بعض المسائل المتعلقة بالنازحين من تحت الطاولة، إذا كان الوزراء المعنيّون يرفضونها.
ومِن هنا يَفهم البعض مسارعة وزير العمل سجعان قزّي إلى القول أنْ لا قيمةَ لِما قرَّرَه مؤتمر لندن أمام قرار وزارته في ما يتعلق بسياسة العمل، وتحذيره مِن «خلطِ الأدوار» والاعتداء على صلاحيات أيّ وزارة.
إذاً، يُغامر بعض المعنيين في ملف مصيريّ كيانياً، هو ملفّ النازحين، سعياً إلى تحقيقِ مكاسب سياسية أو فئوية أو شخصية. وللتذكير، إنّ في لبنان نحو مليوني سوري بين نازح وعامل ومقيم، ونحو نصف مليون نازح فلسطيني.
وهذا يَعني أنّ مجموع النازحين يقارب المليونين باعتراف المؤسسات الدولية، وهو يقاربُ المليونين ونصف المليون وفقَ تقديرات أخرى، مقابل أربعة ملايين ونصف المليون لبناني. وباعتماد الرقم الأدنى، يتبيَّن أنّ النازحين يقاربون الـ45% من سكّان لبنان.
والأخطر في الملف هو أنّ النازحين ما زالوا يتدفّقون، ولو بوتيرة ضعيفة نسبيّاً، ولا أفقَ لعودة السوريّين منهم إلى بلادهم في المدى المنظور، ولا مجالَ إطلاقاً لعودةِ الفلسطينيين إلى ديارهم.
فالقوى الدولية المانحة إيّاها، في لندن، هي التي تُنفِّذ الخطةَ الإسرائيلية لتوطين الفلسطينيين في الشَتات، وهي التي أوقفَت موجة اللجوء السوري إلى أوروبا. وتَعمل هذه القوى على حصرِ أضرار اللاجئين خصوصاً بلبنان والأردن اللذين يتعرَّضان لمخاطر كيانية، على رغم أنّهما لم يُصابا بلهيب «الربيع العربي» وفقَ الطريقة السورية أو العراقية أو اليمنية.
والسلام الداخلي في لبنان ضرورةٌ لاستمرار تدفّق النازحين، فلا يمكن هؤلاء أن يأتوا من ديار الحرب في سوريا إلى ديار الحرب في لبنان. وتُدرك القوى اللبنانية جميعاً أبعادَ المؤامرة في ملفّ النازحين، لكنّ بعضَها يَمضي في اللعبة لغايات مختلفة.
عندما كان لبنان يَستقبل ما بين 30 ألف لاجئ و90 ألفاً شهريّاً، كانت القوى والمنظّمات الدولية توجِّه التحذيرات إليه من مغبَّة إقفال حدوده في وجه هؤلاء لغايات إنسانية. واليوم، أوصَدت أوروبا وأميركا أبوابَهما أمام هؤلاء اللاجئين، وعملَت على تحويل القنبلة إلى بلد لا يوازي، بمساحتِه وعددِ سكّانه، مدينة أوروبّية.
وعندما كان لبنان والأردن يطالبان بالدعمِ، لم يقدِّم لهما المانحون لا في الكويت ولا نيويورك ولا برلين إلّا بضعَ مئات الملايين. وأمّا جدّيةُ الدعم في لندن فهدفُها إبعادُ خطرِ اللاجئين الزاحفين نحو الغرب.
إنّ المليارات الموعودة من مؤتمر لندن ليسَت سوى رشوةٍ تُقدّمها القوى الدولية، الراعية للخطط الكبرى. والهدفُ منها جعلُ لبنان والأردن كبشَ فداءٍ بدلاً عن كيانات أخرى. فهذه القوى تدرك أنّ التوازن الديموغرافي في هذين البلدين سيَسقط عاجلاً أو آجلاً بفِعل النزوح.
والأرجح أنّ هذا السقوط سيكون مطلوباً، إسرائيلياً في الدرجة الأولى، لحلّ مأزق النزاع العربي – الإسرائلي وتصفية القضية الفلسطينية. وهو ينسجم تماماً مع عملية التدمير التي تتعرّض لها الكيانات العربية، بدءاً بالعراق وسوريا واليمن وسواها، والتي ستستمرّ سنوات طويلة.
فهل يَجري الإمعان في إغراق لبنان بالديون في شكلٍ متعمَّد، وإفقارُ شَعبِه، ودفعُه إلى الفشل السياسي والاقتصادي والأمني، إلى حدّ الانهيار، بهدف تسهيل استسلامِه أمام الإملاءات التي ستكون مطلوبةً في المراحل الآتية من النزاع في الشرق الأوسط؟ وهل بدأت الملامحُ الأولى تطلّ مِن خلال مؤتمر لندن؟
المدخلُ الصحيح لمعالجة ملف النازحين في لبنان لا يكون بحفنةٍ مِن الدولارات تَجري المفاوضة على زيادتها، بل بتكريسِ مبدأ السيادة واحترام الكيان، لا منذ بداية النزوح السوري، بل منذ بداية النزوح الفلسطيني إلى لبنان. وهذا المبدأ لا قيمة مادّية له. فـ»ماذا يَنفع لبنان لو ربحَ مال العالم بأسرِه وخسرَ نفسَه»؟
الأرجح أنّ مؤتمر لندن خبيثٌ في توقيتِه ومضمونِه. وقد لاقاه لبنانيّون خُبَثاء أيضاً ينشغِلون بأمور كثيرة لكنّ المطلوب واحد. وملفّ النازحين ينطوي على عملية خُبثٍ خطِرة سيَدفع الكيان اللبناني ثمنَها، لا القوى الدولية ولا الزعامات المستفيدة من الثروات، والتي تؤمِّن على عائلاتها في الخارج، لأنّ لبنان هو فقط فندقٌ لإقامتِها الموَقّتة، والسُلطة فيه بابُ رزقٍ لا أكثر.