كتب المطران منير خيرالله في صحيفة “الجمهورية”:
أنتم أقوياء بمارونيتكم الأصيلة أكثر من مارونيتكم السياسية!
نحتفل هذه السنة بعيد أبينا مار مارون في ظروف إجتماعية واقتصادية وسياسية دقيقة جداً على مستوى منطقتنا الشرق أوسطية والعالم، ولكننا في بداية سنة الرحمة التي أعلنها قداسة البابا فرنسيس نرى أنفسنا مدعوّين للعودة إلى الله وإلى الذات للقيام بفحص ضمير وبفعل توبة صادق يهدف إلى طلب المغفرة من إله الرحمة على كلّ ما ارتكبنا من أخطاء، وطلب القوة والجرأة على مواجهة العواصف الآتية بإيمان ثابت ورجاء وطيد وفي عيش القيم التي تربّينا عليها.
كلّ ما نعرف عن مارون أنه عاش في النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس (350-410)، وأنه كان ناسكاً وكاهناً. تجرَّد عن كلّ شيء في هذه الدنيا وراح يعيش حياةً نسكية على قمم جبال قورش قرب أنطاكية، وفي العراء ويقضي أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف والوقوف المستمرّ، ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي عاش عليها. أعطاه الله موهبة شفاء الأمراض الجسدية والنفسية. فتقاطر إليه الناس وتتلمذ الكثيرون على يده. وراح تلاميذه يضاهونه في عيش الروحانية النسكية التي وضعها.
ومنهم مَن بقوا في سوريا وجمعوا الناس حولهم وبنوا الأديار، وكان أكبرُها دير مار مارون على ضفاف العاصي، ومنهم مَن هجروا إلى جبال لبنان، فسكنوا جرود جبيل والبترون والجبّة، من أجل حمل الرسالة المسيحية وتبشير الفينيقيين ودعوتهم إلى الإيمان بالإله الواحد وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار.
وتجمّع حولهم الناس حتى دُعوا “بشعب مارون” أو “ببيت مارون”. فبنوا الأديرة وجعلوا منها منارةً لنشر القيم المسيحية والثقافية والعلم. ومع يوحنا مارون أسَّسوا كنيسة بطريركية، وحافظوا على روحانيتهم النسكية وعلى ثقافتهم وانفتاحهم على الشرق والغرب وعلى حريتهم واستقلاليتهم.
عاشوا في العراء على قمم الجبال، أو في قعر الوديان، وتحمّلوا أشق العذابات في سبيل الحفاظ على حريتهم. وعملوا في أرضهم القاحلة والصخرية فحوّلوها إلى جنّات وتمسّكوا بها وأحبّوها لأنهم تعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم.
كانوا دوماً أقلّيةً صغيرة في وسط الامبراطوريات والسلطنات على أنواعها، من البيزنطيين إلى الأمويين إلى العباسيين إلى الصليبيين إلى المماليك وصولاً إلى العثمانيين الذين حكموا الشرق وأكثر الغرب لأربعمئة سنة. لم تكن بيدهم سلطة، لكنهم صمدوا بفضل إيمانهم وتكوكبهم حول رأسهم الواحد والأوحد البطريرك وتعلّقهم بأرضهم وبالقيم التي كانت تجمعهم.
عملوا مع اخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز على تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر. ثمّ حصلوا بعد الحرب العالمية الأولى على إعلان دولة لبنان الكبير بقيادة البطريرك الكبير الياس الحويك، وفي خلال الحرب العالمية الثانية على الاعتراف باستقلال دولة لبنان جمهورية و”دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة”.
وفيما نحن اليوم أبناء مارون، وأخوتنا اللبنانيون معنا، نعيّد مار مارون الذي استعدنا هامته من إيطاليا إلى كفرحي سنة 2000 بعد غياب 870 سنة، نقف أمام الله وأمام ذواتنا ونتساءل:
ماذا حلّ بنا لنتراجع عن عيش مقوّمات روحانيتنا النسكية التي وضعها مارون وعاشها من بعده تلاميذه ويوحنا مارون وشعب مارون، وقد تميّزت بحياة متكاملة جمعت بين النسك والرسالة في انفتاح على الله وعلى الناس؟
ماذا حلّ بنا لنتراجع عن التزاماتنا التاريخية وعن مبرّرات وجودنا في هذا الشرق، أيْ الشهادة للمسيح المصلوب بالحرية والمحبة والمغفرة والانفتاح والانتشار المستمرّ؟
ماذا حلَّ بنا لنتراجع عن التزامنا بجبل لبنان المقدس الذي جعلنا منه معقلاًَ للحريات واستقبلنا فيه كلّ مضطهَّدٍ ومناشدٍ للحرية في هذا الشرق؟
ماذا حلّ بنا لنتنكّر للانجاز التاريخي النادر في تاريخ العلاقات بين الشعوب والأديان الذي حقَّقه آباؤنا وقد تجرّأوا في بداية القرن العشرين بقيادة البطريرك الياس الحويك على خوض التجربة الإجتماعية والسياسية الفريدة من نوعها في العالم، أيْ الوطن اللبناني، الوطن الذي يجمع بين الأديان والطوائف والجماعات المتعددة في الحرية والمساواة والاحترام المتبادل؟ هم الذين ساهموا في تأسيس لبنان وطن الحريات، ولكنهم لم يحتفظوا به لهم وحدهم ولم يريدوه يوماً وطناً قومياً للموارنة أو للمسيحيين؟
ونتساءل: “ما هو دورنا وما هي مسؤوليّتنا في كنيسةٍ تسعى إلى التجدّد بعد المجمع البطريركي الماروني، وإلى التجرّد في عهد قداسة البابا فرنسيس، فيما هي تعاني من تراجع جغرافي وهجرة متزايدة؟ وفي دولة تسعى إلى إصلاح مؤسساتها فيما هي تعاني من فساد مستشرٍ وعجز اقتصادي متعاظم وتراجع سياسي متنامٍ”؟
وفي شرقٍ تنشد شعوبه الحرية والديموقراطية والسلام فيما تسعى الحركات الأصولية إلى فرض سيطرتها بقوة السلاح والإرهاب؟
يا أبناء مارون،
أنتم مدعوّون أولاً وآخراً إلى القداسة، لا إلى الرئاسة!
في تاريخنا لم نكن يوماً طالبي رئاسات، بل مشاريع قداسة. فالرئاسات عابرة أما القداسة فهي حال مَن يتّحد بالله، الحبّ المطلق والأبدي.
نحن اليوم نحتاج، أكثر ما نحتاج، إلى قديسين لا إلى رؤساء وسلاطين!
لقد ناضلتم مئات السنوات من أجل بناء الكيان اللبناني وطناً رسالة، على حدّ قول البابا القديس يوحنا بولس الثاني. فلا تسعوا اليوم إلى أن تكونوا فيه رؤساء، بل اسعوا إلى أن تحافظوا له على القيمة الأغلى عندكم، ألا وهي الحرية.
لا تخافوا يا أبناء مارون! أنتم أقوياء بمارونيتكم الأصيلة أكثر من مارونيتكم السياسية!
أنتم قادرون، مع اخوتكم المواطنين، مسيحيين ومسلمين، على إعادة بناء لبنان في دعوته التاريخية ورسالته الفريدة، ليبقى نموذجاً في العيش الواحد بالحرية واحترام التعدّدية.
أيها الرب يسوع، اقبل صلاتنا واجعل من مار مارون ومار يوحنا مارون وجميع قديسينا، من بطاركة ومطارنة ونساك ورهبان وراهبات وآباء وأمهات، مثالاً لنا وقدوة في عيش الروحانية النسكية في القرن الحادي والعشرين.