تقرير رولان خاطر
في تموز 2014، نشرت مقالة في المجلة الشهرية التي تصدر عن الدولية للمعلومات، بعنوان “إدارة حصر التبغ والتنباك (الريجي): إيرادات بأكثر من 200 مليون دولار”. تناولت سرداً تاريخياً عن ظهور التبغ في لبنان وكيفية إدارته منذ العام 1590.
“إدارة حصر التبغ والتنباك” هي واحدة من المؤسسات العامة التابعة لوزارة المالية التي لها سلطة الإشراف عليها. وهي من المؤسسات التي تدرّ ذهباً على الخزينة، نظراً لموقع التبغ المتقدّم على مستوى الاستهلاك المحلي. فهو يعتبر من المصادر الحيوية جداً بعد الخبز والبنزين ومجال الاتصالات، (بطاقات التشريج).
حتى العام 2013، فاقت تحويلات “الريجي” إلى خزينة الدولة الـ200 مليون دولار سنوياً،بحسب الدراسة نفسها. http://www.information-international.com/index.php/the-monthly/articles/1038–200-
مع العلم أنّ الكثير من التجاوزات كانت ترتكب على مستوى الهدر العام، إلاّ أن الأنظار بقيت محجوبة عن الكثير من الممارسات، نتيجة المحسوبيات، والتنفيعات. لكن كأس التجاوزات فاض في العامين الأخيرين.
فالمؤسسة التي يديرها ابن شقيقة الرئيس نبيه بري ناصيف السقلاوي، والتي يتولى معظم المراكز والمناصب المهمة فيها أقرباء أو مقربون أو ممن ينتمون إلى الطائفة الشيعية، تغرق أكثر فأكثر في مستنقع الفساد والهدر والسرقة والفوضى المنظمة.
“أمراء” السوق السوداء
معلوم أنّ لكل منطقة مرجعها في بيع الدخان، وهم “رؤساء البيع”، الذين يملكون الرخص من إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية، ولهم وحدهم الصفة الشرعية في توزيع الدخان على السوق اللبنانية.
ثمّة حوالي 700 رخصة لبيع الدخان بالجملة، و”الريجي” تسلّم كل اثنين صباحاً صناديق الدخان على أساس الرخص الممنوحة للتجار. بمعنى، إذا كان هناك نحو 1400 صندوق من نوع “مالبورو” للتوزيع هذا الأسبوع، تسلّم “الريجي” صندوقين لكلّ رخصة.
إلا أنّ المشكلة تبدأ عندما تواجه السوق أزمة على صنف معيّن، فهذا يعني أن الكمية الموجودة، أي العرض، أقلّ من الطلب. وهذا ما يدفع أمراء ما يسمّى بـ”السوق السوداء” إلى إحكام قبضتهم على رقاب التجار والتحكّم بالسوق بالكامل. فيعمد التجار الكبار الذين يملكون رخصًا عدّة، إلى بيع الفائض لديهم من الصنف المقطوع إلى التجار الصغار في السوق بأسعار مرتفعة جداً يحددونها، بعيدًا عن رقابة الدولة. فعلي سبيل المثال: “إذا كانت حاجة أي تاجر مثلاً تبلغ 10 صناديق من نوع “مالبورو” في الأسبوع، وهي تفوق ما تعطيه قانوناً إدارة “الريجي” التي تخصص صندوقين فقط لكلّ تاجر، يضطر التاجر عندها للخضوع لسيف أمراء السوق السوداء، ويعمل على سدّ حاجاته الباقية، أي شراء 8 صناديق من السوق السوداء بأسعار مرتفعة تصل إلى أكثر من 100 دولار للصندوق الواحد”.
وبحسب معلومات لموقع IMLebanon، فإنّ عمليات تحايل منظمة تجري في الاونة الأخيرة، ومنذ نحو تسعة أشهر تقريباً، على طريقة عمل “الريجي”. وهذه العمليات تنفذ من قبل شبكة يديرها أصحاب الشأن والنفوذ في إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية، وتحقق لمنفذيها وللدائرة التي تعمل ضمنها مبالغ مالية ضخمة غير مشروعة، خارج إطار القانون والانتظام العام.
وتشرح مصادر مطلعة لـIMLebanon، أنّ “الريجي”، وكي تمنع المضاربات وعمليات “السوق السوداء”، عمدت إلى تصنيع نوع دخان جديد هو “cedarssilver”، و”cedars blue”، بحلّة جديدة، وبسعر 1000 ليرة لبنانية فقط. إلا أنّ المفاجأة كانت أن هذا النوع من الدخان احتل خلال شهر واحد 40% من مبيعات السوق اللبنانية، وهو ما لم يكن متوقعاً بحسب شركات الدخان و”الريجي”.
زيادة الطلب على هذا الصنف جعل إنتاج الريجي منه يصل في بعض الأحيان إلى تصنيع نحو 12000 صندوق شهرياً، علماً ان الأرقام اليوم تبلغ حوالى 9600 صندوق شهريا، أي ما يعادل 2400 صندوق في الأسبوع.
الهدر والسرقة
في الهيكلية الإدارية للشركة مصالح معينة، ولكل مصلحة رئيس مسؤول عنها. ولدور رئيس مصلحة البيع حسين سبيتي، المقرّب من “حركة أمل”، الدور الأساس في عملية توزيع الحصص صباح كل اثنين على التجار.
فوفق معلومات IMLebanon، يتم توزيع 1400 صندوق من منتوجات “cedars” الجديدة من أصل 2400 تقريباً على التجار بسعر 238 دولارا للصندوق، فيما العدد الباقي من الصناديق أيّ ما يبلغ نحو 1000 صندوق، يظهر في “السوق السوداء” بسعر يتراوح بين 325 دولاراً إلى 330 دولارا للصندوق، من دون معرفة متى وكيف ومن أوصل هذه الكمية من الدخان إلى تجار السوق السوداء.
واللافت أنّ كل هذه الكمية تظهر فقط لدى التجار الذين يتمتعون بمحسوبيات وينتمون إلى فئات حزبية معينة، علماً أن منهم لا يملك إلا عددًا قليلا من الرخص، ومن بينهم التاجر فيصل عمار شقيق نائب “حزب الله” في مجلس النواب اللبناني علي عمار. إضافة إلى تجار آخرين محسوبون أيضاً على “حركة امل” و”حزب الله”.
ونتيجة هذا التضارب بين أسعار الدولة وأسعار السوق السوداء، ارتفع سعر علبة “cedars” بنوعيها من 1000 ليرة إلى 1250 ليرة لبنانية. هذا يعني أن قيمة الـ250 ليرة لا تعود للدولة، بل لأمراء “دويلة الدخان”.
وفي عملية حسابية بسيطة، إذا احتسبنا أنّ الدولة تبيع صندوق الـ”cedars” بسعر 238$ بينما يباع في السوق السوداء بـ330$، فبذلك، تلحق خسائر سنوية بالدولة تصل إلى أكثر من عشرة ملايين دولار.
بمعنى أدق، إذا باعت الدولة 2400 صندوق بسعر 330 دولارا، فبدل أن تحقق إيرادات تبلغ 571200 دولار بحسب السعر 238$ للصندوق، فهي ستجني بدل ذلك 792000 دولار، أي ما يعادل زيادة 220800 دولار في أسبوع واحد، وما يعادل زيادة في الايرادات تصل إلى 883200 دولار في شهر واحد، أي 10.598.400 دولار في السنة.
في المقابل، إذا احتسبنا أنّ الدولة تبيع اليوم بشكل شرعي 2400 صندوق بمبلغ 571200 دولار بحسب السعر 238 دولارًا للصندوق، فإنّ ألف صندوق الذين يباعوا في السوق السوداء بسعر 330 دولارا، يحجبون 4.416.000 دولار عن جيبة الدولة.
1000 صندوق x 92$= 92000$
92000$ x 4 أسابيع = 368000$
368000$ X 9 أشهر = 3.312.000$ حتى الآن.
وسنويا 4.416.000 دولار.
إذا، فإنّ مدير المبيعات الذي خصص صندوقا واحدا من الدخان لكل تاجر يوزع على التجار كل يوم اثنين صباحا، يكلف الدولة خسارة تصل إلى نحو ملايين الدولارات.
أمام هذا الواقع، هناك الكثير من التساؤلات تطرح على بال المواطن؟ لماذا لا يصدر وزير المالية قراراً برفع ثمن علية دخان الـcedars بنوعيها إلى 1250 ليرة بدل 1000 ليرة طالما أن المستهلك أثبت قدرة على شرائها، فيقوم بتنظيم السوق ويضبط عملية التوزيع؟
لماذا هذا التراخي وعدم مراقبة مداخيل الدولة بشكل فعال؟
من يستفيد من ترك الفوضى سائبة في البلد؟
من يعمل على سرقة مال الخزينة بطريقة ممنهجة ومستدامة؟
من المسؤول عن انسياب المال العام لجيوب تجار الأنظمة وسماسرة الأوطان؟
وإلى متى مؤسسات تبقى الرقابة وآليات المحاسبة غائبة عن كل من يعيثون فساداً في المؤسسات العامة وينهبون من المال العام؟