إيفا الشوفي
ازداد الحديث في السنوات الماضية عن الأخطاء الطبية الحاصلة في مستشفيات لبنان. فقد حصدت قضية الطفلة إيلا طنوس، التي بُترت يداها وساقاها، ضجة كبيرة وخصوصاً بعد الموقف الذي اتخذته نقابة الأطباء بتعليق العمل في جميع المستشفيات حتى إخلاء سبيل الطبيب المشتبه بارتكابه خطأ طبياً.
باتت المواجهة حامية وآنية: حشدت نقابة الأطباء نقابات المهن الحرة دعماً للطبيب ورفضاً للمس بحصانة الاطباء، حتى لو كان الأمر على حساب طفلة لم تبلغ السنة من عمرها، أما وزارة الصحة والرأي العام والإعلام، فتعاطفوا مع الحالة الإنسانية في مواجهة الطبيب. فعلياً، لم ينتج آنذاك أي نقاش علمي وموضوعي لمسألة الأخطاء الطبية عامةً، إذ استغل الجميع، من وزارة الصحة ونقابة الأطباء والمستشفيات، الحادثة لتبرئة انفسهم باعتبارها حالة فردية منفصلة عن واقع النظام الصحي اللبناني والثغر القائمة فيه.
الدراسات الأخيرة كشفت ان المشكلة الجوهرية تكمن في السياسات الصحية و”غالبية الأخطاء تقع نتيجة إخفاقات على مستوى المؤسسات والنظم الصحية وليست دائماً نتيجة إهمال شخصي”. فقد أصدر مركز ترشيد السياسات الصحية في كلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت، موجزا معرفيا للسياسات العامة بعنوان “معالجة موضوع الأخطاء الطبيّة في المؤسّسات الصّحية في لبنان”، استعرض فيه “أدلة علمية وموضوعية دامغة حول حجم مشكلة الأخطاء الطبية في لبنان وأسبابها”، بعد حوار مشترك مع الجهات المعنية بالأمر مثل وزارة الصحة، نقابة الأطباء، نقابة المستشفيات، الصليب الأحمر اللبناني وغيرها.
تخفيف الأخطاء الطبية يتطلّب بداية التبليغ عنها ومن ثم مناقشة الأسباب والمسؤوليات من أجل تحقيق تحسّن في الممارسات المرتبطة بسلامة المرضى على الصعيد الوطني، وهذه إحدى أبرز العقبات في النظام الصحي.
يعترف الموجز بدايةً بأن المعطيات (الأرقام والبيانات) عن العدد الدقيق للأخطاء الطبية في لبنان غائبة، وأن هناك ارتفاعا في عدد حالات الأخطاء الطبية. المعطى الوحيد الذي يمكن الحصول عليه في هذا المجال هو أنّه “بين عامي 1996 و 2013، جرى تقديم أكثر من ألف شكوى متعلقة بممارسات طبية خاطئة أو غير سليمة إلى نقابة الأطباء (…) التي ركزّت في تحقيقاتها على الأطباء على نحو اساسي باعتبارهم الفاعلين الرئيسيين في الأخطاء الطبية”.
ينطلق الموجز في معالجة المسألة بالإستناد إلى تعريف واضح للأخطاء الطبية وهو “الفشل في تنفيذ أو استكمال خطوات مقررة كما كان ينبغي، أو اللجوء إلى خطوات خاطئة أو غير سليمة لتحقيق هدف. وقد تشمل الأخطاء الطبية جوانب في الممارسات، أو المخرجات، أو الإجراءات أو الأنظمة”. وعليه فإن “المشاكل على مستوى النظام الصحي، والمؤسسات الصحية، والكفاءة المهنية، تساهم باستمرار حدوث أخطاء طبية مترافقة مع استجابات ضعيفة ومحدودة”.
ارتكز مركز ترشيد السياسات الصحية على عدد كبير من الدراسات والمراجعات في الموجز الذي خلص إلى تحديد أبرز العوامل المسببة للأخطاء من ترتيبات النظام الصحي القائم ابرزها: على مستوى الحوكمة، تتوزّع مكامن الخلل في النظام الصحي على عدّة جهات، فمن ناحية مسؤولية الدولة والوزارات، لما من سياسة وطنية صريحة ومحددة لتحسين جودة وسلامة المرضى، كما ان آلية الاعتماد الحالية للمستشفيات تتضمن بعض الثغر، بما في ذلك وجود معايير قديمة بحاجة إلى تحديث، وعدم تجديد تصنيف إعتماد المستشفيات على نحو دوري، وغياب الآليات اللازمة لضمان الجودة بشكل دائم ما بعد الاعتماد، والنقص في الكوادر الوطنية المؤهلة لأداء المعاينات الميدانية والكشوفات.
أمّا من ناحية مراكز الخدمات الصحية، فلا تزال عمليات التدقيق والتوثيق ضمن العمل السريري دون المستوى المطلوب في قطاع الخدمات الصحية، كما أنّ التعليم الطبي المستمر في لبنان ليس فعالا بالقدر المطلوب، فبالرغم من أنّ نقابة الأطباء تنصح الأطباء بالتعليم الطبي المستمر، فإن الأطباء نادرا ما يتّبعون أو يشاركون في أي من صفوف التعليم الطبي المستمر، إضافة الى ذلك فإن المناهج المعتمدة في الكليات الطبية تركز على نحو كبير على تشخيص الأمراض وإدارتها، وعلى نحو أقل على الإدارة السليمة لأنظمة الخدمات الصحية وتحسين الجودة. أمّا المرضى، فلا يعرفون حقوقهم في ما يتعلق بالرعاية الطبية والأخطاء الطبية وأحيانا يكون من الصعب عليهم إثبات أنهم كانوا ضحايا أي خطأ طبي.
يتابع الموجز تفصيل مكامن الخلل على المستويين المالي والخدمات الصحية، إذ إنّ ثقافة سلامة المرضى لا تزال تغيب عن ثقافة العمل في أوساط الخدمات الصحية في لبنان، وبالأخص في يوميات العمل والرعاية. ويتسبب غياب مثل هذه الثقافة بتعزيز بيئة الرد العقابي، ما يؤدي غالبا الى ثني مقدمي خدمات الخدمات الصحية عن التبليغ عند وقوع أي حادث أو خطأ.
وعليه يخرج الموجز بأبرز الخلاصات الواجب تطبيقها لتخفيف الأخطاء الطبية وهي “تحسين الإدارة السريرية من خلال دمج المبادئ التوجيهية السريرية المبنية على البراهين العلمية، وتدريب وتقييم أداء العاملين الصحيين، من بينهم الأطباء. إصدار وتطبيق سياسات تعزز عملية التبليغ عن الأخطاء الطبية على نحو سري من جهة، وتعزيز ونشر ثقافة الردّ غير العقابي من جهة أخرى. مراجعة وتحديث معايير أنظمة الاعتماد الحالية للمؤسّسات الصحية لضمان احتوائها على أهداف سلامة المرضى ومؤشرات الأداء. وتمكين المرضى ومساندتهم وتوعيتهم على الدور الذي يؤدونه في ما يختصّ بسلامتهم وإشراكهم في عملية اتّخاذ القرارات التي تتعلّق بصحتهم”.