اذا كان اقتصاد لبنان “الخدماتي” بشكل اساسي يعرضه لخضات دائمة مرتبطة بإنعاكاسات الأوضاع السياسية والأمنية الداخلية والاقليمية، فإن المبادرة الفردية تبقى اساسية في هذا الاقتصاد، حتى في أصعب الظروف التي يمر بها المستثمرون.
يقول الاستاذ المحاضر في الاقتصاد في جامعة اللويزة نعيم سالم، لـ “المدن”، “ان أكثر من 70% من اقتصادنا يعتمد على الخدمات، وهي نسبة توازي النسب في العديد من الدول الاوروبية ذات الاقتصاد المتطور، وإن كان حجم هذه الخدمات يتفاوت بين ما تقدمه قطاعات المصارف، السياحة والتكنولوجيا الحديثة التي تستقطب الحجم الأكبر من الرساميل وتشغل الطاقات اللبنانية بشكل أساسي، وبين الخدمات الأقل حجما التي توفرها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي يعتمد انشاؤها بشكل أساسي على “فطنة” المستثمر في تلقف حاجات المجتمع الذي تنشأ فيه الخدمات.”
منذ فترة ليست بعيدة، انضمت خدمة جديدة الى خانة المهن الخدماتية المتوفرة في لبنان، هي “الدليفري الشامل” او خدمة توصيل الحاجيات الى المنازل والمؤسسات، من دون ان يكون “الدليفري بوي” يعمل لدى تلك المؤسسات. من الغازية في صيدا لمعت الفكرة في ذهن شابين لبنانيين (علي موسى وأحمد الديراني) حاولا التحايل على حالة البطالة التي يعيشانها، لتتطور في زحلة الى محاولة لمأسسة الـ delivery، وتوسيع نطاقها، بالإعتماد المباشر على وسائل التواصل الحديثة، والدعاية المبتكرة، وطبعا على اليد العاملة السورية.
يشرح كل من جوزف غرة وشربل زغيب طبيعة هذه الخدمة التي استحدثاها في زحلة تحت عنواني “يلا جاية” و”خليك مرتاح” “YALLA JEYE” و”KHALIK MERTEH ومبدؤها القائم على مقولة “اذا كنت غير راغب بالإنتقال الى السوق جرب ان تحضر السوق اليك”. ويلفت غرة الى ان الخدمة التي امتهنها تطال كل أنواع السلع التي يحتاجها اي انسان في منزله، وليس فقط توصيل طلبات المطاعم، بل حتى تلك التي “لا تخطر في بال أحد أحيانا”، ويشير زغيب في المقابل الى امكانية كبيرة للتوسع في خدمة الدليفري لتشمل في المستقبل التعاون مع المستشفيات والمختبرات لتوصيل نتائج تحليلاتها الى طالبيها، ولتأمين خدمة نقل السيارة من المغسل واليه وغيرها.
لا تحتاج خدمة “الدليفري” الى استثمارات كبيرة، بل الى رأسمال محدود يكفي لإمتلاك عدد من الدراجات النارية وتسجيلها، والى تشغيل الهاتف الخليوي، وتلقي الطلبات بمختلف الطرق وحتى عبر تطبيق خاص اعتمده غرة في yalla jeye ، بالإضافة الى نفقات المحروقات، ونفقات الاجراء المياومين. ويشير زغيب في المقابل الى ان هذه الخدمة تسهم فعلا في تحريك العجلة الإقتصادية في زحلة، ولو بنسب متفاوتة، لأنه في احيان كثيرة “نؤجل شراء حاجياتنا تكاسلا، فننساها”. لا يدعي المستثمران انهما يشغلان لبنانيين، بل يؤكدان إن إعتماد مؤسستيهما الأساسي هو على العامل السوري وخاصة من لديه معرفة جيدة بأحياء زحلة وأزقتها.
ولا يرى سالم ضرراً في تشغيل اليد العاملة السورية بخدمات إضافية، خصوصا أن العامل السوري صار ايضا مستهلكاً في لبنان، ويعمل تحت إشراف أصحاب الرساميل اللبنانيين، رافضا النظرة السلبية الى دور العمالة السورية. ويقول سالم ان لهذه العمالة فضلاً كبيراً في إزدهار الإقتصاد اللبناني منذ خمسينيات القرن الماضي، معتبرا “اننا نحتاجهم وهم يحتاجون اموالنا. ويجب ان نعلم ان ما يستهلكه العامل السوري من الاقتصاد اللبناني يبقى اقل بكثير من الاموال التي تصل الى لبنان من الخارج، سواء من المغتربين الذين يعملون في الدول الخليجية او في اوروبا واميركا، حيث يعتبر هؤلاء عمالا اجانب في دول الاغتراب”، متحدثا عن “7 مليارات دولار تصل الى لبنان سنويا من الخارج رغم الأزمة، فيما لا يبلغ حجم الإنفاق على اليد العاملة الأجنبية سواء كانت سورية او غيرها الى 10% من حجم هذه الأموال. ونحن نوظفهم عادة نظرا لأجورهم المتدنية التي لا يقبل بها اللبناني قياسا الى صعوبة العمل الذي يزاولونه”
واذ يشجع سالم انضمام اي خدمة اضافية الى عائلة الخدمات التي يوفرها الإقتصاد اللبناني، يرى انه من حسنات الاقتصاد الخدماتي انه يبقى متأقلماً مع حاجات المجتمع الذي ينشأ فيه. مؤكدا في المقابل على “ان تحول اي خدمة الى مهنة يرتبط بالعرض والطلب. وبالتالي اينما نجد طلباً لا بد ان يولد عرض جديد، وملاحظة المستثمر لهذه الحاجة والسعي للاستثمار بها يشكلان جزءا من صراع البقاء عند الإنسان، وخاصة في لبنان، حيث يجعلنا الركود الإقتصادي بحاجة للبحث دائما عن استثمارات في خدمات جديدة”.
إزدهار خدمة الدليفري في زحلة لا بد انها تعكس حاجة، وهذه الحاجة كما اكتشفها غرة وزغيب تتمثل في “ميل الزحلي الى تدليل نفسه” وهو ما يضع المستثمرين في خدمة الدليفري امام تحدي تطوير الخدمة، خصوصا ان نجاح الفكرة يجعلها عرضة الى مزيد من المنافسة التي يقول غرة انه قادر على مواجهتها “بالصبر والتضحية وبناء الثقة وتوسيع شبكة العلاقات، تمهيدا للتوسع بالخدمة الى مدن وقرى الجوار، او لتجهيز مخازن خاصة توفر السلع الاساسية بشكل أسرع، او حتى عبر انشاء مؤسسة او مطعم بإسم الخدمة”. فيما يشير زغيب الذي استوحى الفكرة من غرة الى “ان زحلة مدينة كبيرة، واذا تعممت هذه الفكرة، لن يقدر طرف واحد على تلبية كل الحاجات”. ويبدي التفاؤل بتحول الخدمة الى “موضة” “تريح الأزواج من طلبات زوجاتهم” كما يقول ممازحا.