كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”: ما قاله وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق عقب زيارته رئيسَ تكتل “التغيير والإصلاح” العماد ميشال عون في الرابية عن اقتناعٍ بحتمية حصول الاستحقاق الرئاسي هذه السنة، هو كلام يتردّد بقوة في الكواليس الديبلوماسية المؤثرة في الواقع اللبناني.
ذلك أنّ العواصم الدولية وخصوصاً واشنطن وباريس تبديان تصميماً على وجوب إقفال الملف اللبناني انطلاقاً من محطات ثلاث:
أولاً: الواقع المالي الضاغط داخلياً من خلال عنوانين:
العنوان الأول وهو المتعلق بالنزف الذي يطاول الواقع الصعب الذي يمرّ فيه الاقتصاد اللبناني ومن خلاله التهديد الذي يحوم حول الخزينة اللبنانية.
والعنوان الثاني يتعلّق بالنافذة التي فتحت بشأن مشكلات تمويل “حزب الله”، حيث تبدي قنوات الضغط المالية الأميركية والقريبة من اللوبي اليهودي حماسة لاستهداف رجال الأعمال اللبنانيين من الطائفة الشيعية والذين أصبحوا قوة اقتصادية قوية في أفريقيا.
إذ تحت ذريعة تجفيف مصادر تمويل “حزب الله”، تسعى الشركات الإسرائيلية إلى أخذ مكان اللبنانيين هناك، على رغم أنّ هناك مَن يعتقد أنّ باب الضغط هذا قد يؤدي في نهاية المطاف وفي حال أخذت الأمور منحىً إيجابياً الى فتح قنوات التفاوض المباشر بين واشنطن و”حزب الله” ومقدمة للبحث في كثير من الملفات، أكانت لبنانية بحتة أم لبنانية بطابع إقليمي، خصوصاً أنّ واشنطن تُحاذر من أن تؤدّي المبالغة في ضغوطها الى انهيار لبنان اقتصادياً ومالياً.
ثانياً: تصاعد الهمس في الأروقة الديبلوماسية عن وجود نيّة للمحكمة الدولية لإصدار خلاصات للجلسات التي عقدت والتي ستحمل في طياتها مواقف قوية سيكون لها تأثير كبير في الداخل اللبناني.
ثالثاً: التطورات العسكرية المتسارِعة في سوريا، خصوصاً في حلب، حيث بات واضحاً أنّ العدّ العكسي لحصار المسلّحين داخل بقعة جغرافية ضيقة في حلب قد بدأ، وبالتالي التوصّل الى شطب حلب من المعادلة الميدانية لمعارضي النظام تمهيداً لإعادة فتح قاعات التفاوض وفق ميزان قوى جديد يَميل لمصلحة النظام ويسمح بالتوغل في تسوية سياسية تُنتج دستوراً جديداً يعكس التوازنات الميدانية الجديدة.
وفيما ستشرّع التسوية السياسية المنتظرة نفوذ النظام على “سوريا المفيدة”، أو بعبارة أوضح على المدن الكبرى ومناطق القوة الاقتصادية وذات القيمة الاستراتيجية، فإنّ قوة الردع الإسلامية التي ستتألّف من دول حليفة لفصائل المعارضة ستتولّى السيطرة على المناطق المتبقية تحت عنوان إزالة “داعش” و”جبهة النصرة”، وستؤمّن حضوراً مستقبلياً سياسياً للمعارضة السورية تحت سقف الدولة المركزية.
ولكن قبل الدخول في هذه الورشة الصعبة والمعقّدة والشائكة، فإنّ واشنطن ترغب فعلياً في إقفال الورشة اللبنانية وعدم إدخالها في صلب البازار السوري. وهو ما يعني إنجاز الاستحقاق الرئاسي مُضافة اليه ترتيبات محدودة ومعقولة. ومعه تبدو مرحلة الصيف المقبل حاسمة على هذا الصعيد.
ولا شك في أنّ اللاعبين الإقليميين يتابعون بكثير من التفصيل مسارَ الانتخابات الرئاسية الأميركية حيث يبدو واضحاً التقدم الذي يُحقّقه المرشحون الذين يحملون خطاباً متشدّداً وحازماً تجاه قضايا الشرق الأوسط وبطبيعة الحال سوريا.
هذا المعطى تقرأه طهران بلا شك، إضافة الى الرياض وأنقرة. وقد تكون المصلحة السعودية والتركية بترك الامور حتى وصول الرئيس المقبل الى البيت الابيض، لكنّ المعطيات الميدانية الضاغطة تلزمهما الإسراع في لملمة الوضع قبل خسارة كلّ أوراقهما.
وفي موازاة ذلك حركة لافتة للوبي اليهودي في أميركا، فرؤساء الجاليات اليهودية وعلى رغم خلافاتهم توافقوا على تشكيل وفد موحَّد وباشروا جولة شرق أوسطية عبر ثلاث محطات: تركيا، فمصر وأخيراً إسرائيل. وهذه هي المرة الأولى التي تحصل فيها زيارة من هذا النوع.
وخلال لقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ أيام، سعى الوفد اليهودي إلى إعادة ضخ الحرارة في العلاقات التركية – الاسرائيلية.
وفي القاهرة، تداول الوفد مع الرئيس عبد الفتاح السيسي في طريقة تفعيل التعاون الأمني مع إسرائيل إضافة الى القطاعات الأخرى.
وتبقى محطة إسرائيل والتي ستحصل خلال اليومين المقبلين. وفيما ستكون هذه الزيارة هي الأصعب، ذكرت أوساط ديبلوماسية أنّ الوفد سيطرح على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الجدوى من الاستمرار في سياسة بناء المستوطنات. والواضح أنّ ذلك يُمهّد لمرحلة عودة التفاوض لإنجاز تسوية إسرائيلية – فلسطينية على أن يكون الموعد فوراً بعد ترسيخ التسوية حول سوريا.
في اختصار، هناك مشروعٌ كبير يُحضَّر له وسينطلق مع الدخان الذي سيغطّي سماء حلب، ولا بدّ من إقفال الملف اللبناني لكي لا يزيد لاحقاً من أعباء وعقد تسويات الملفين السوري والفلسطيني، وحيث يشكل “حزب الله” عنصراً أساساً من عناصر هذه الملفات.
لكنّ المشكلة في لبنان أنّ التوازن الداخلي اختلّ كثيراً أخيراً، حيث نال الفريق الذي يُفترض أن يُحقّق التوازن مع “حزب الله” خساراتٍ متتالية وفادحة خلال الأشهر الأخيرة، وأدخل كثيراً من الأهداف بنفسه في مرماه ووصل التفسخ الى داخل تيار “المستقبل”، ومعه بدا أنّ ميزان القوى في لبنان أصبح لمصلحة إيران بكامله، وبدت السعودية كأنّها خرجت، أو تكاد، من المعادلة اللبنانية. قد تكون لذلك أسبابٌ كثيرة، لكن لا شك في أنّ التناقضات الداخلية السعودية كان لها التأثير البالغ على الداخل اللبناني.
وخلال الأيام الماضية، جرت إعادة درس وتقويم الوضع في لبنان وتوازناته الداخلية، وشارك في تلك القراءة ديبلوماسيون أميركيون، واستقرّ الرأي على إعادة ترميم الوضع في محاولة لاستعادة التوازن والدخول في تسوية رئاسية مقبولة.
وقيل إنّ الرأي استقرّ على إعادة ترميم ما تهدّم واستيعاب الجميع، أيْ معاودة تيار “المستقبل” فتح خطوط التواصل مع جعجع واحتضانه كونه القوة المسيحية التي لا بديل منها والقادرة على تحقيق التوازن مع الفريق الآخر. وثانياً، إعادة لمّ الشمل “المستقبَلي”.
وثالثاً، تجنّب أيّ استحقاقاتٍ انتخابية بما فيها الانتخابات البلدية تجنّباً للنزاعات الداخلية وقطعاً للطريق أمام المطالبة بالشروع في الانتخابات النيابية قبل الرئاسية، وبالتالي لن يكون هناك أيّ استحقاق انتخابي قبل حصول التسوية الرئاسية بذريعة الأوضاع الأمنية الدقيقة، وهذا إذا لم تحصل فعلاً أحداثٌ أمنية.
رابعاً، فصل التناقضات السعودية عن الملعب اللبناني.
خامساً، وربما الأهم تأمين الموازنات المالية المطلوبة ووضعها في تصرّف الرئيس سعد الحريري الذي سيعمل على إعادة لمّ شمل قوى “14 آذار” والعمل على استعادة التوازن الذي كان قائماً سابقاً مع “حزب الله”، وهو ما يعني أنّ القرار اتُخذ بالعودة النهائية للحريري، وأنّ حضوره أمس مهرجان “البيال” هو بداية هذه المرحلة، ولو أنه سيسافر الى السعودية بعد أيام على أن يعود للإقامة النهائية في “بيت الوسط” للبدء بمهمته الجديدة.
لكنّ هذا لن يؤدّي الى محو المستجدات التي طرأت أخيراً، خصوصاً على مستوى الساحة المسيحية. فالعلاقة بين الحريري ورئيس تيار “المردة” النائب سليمان فرنجية لن تعود الى الوراء، إذ إضافة الى “الكيمياء” التي قرّبت كثيراً بينهما، فإنّ لكلٍّ من الرجلين مصلحة في إبقاء التواصل قوياً بينهما، وهو ما ظهر في كلمة الحريري.
وكذلك على مستوى التقارب بين عون وجعجع، حيث لمس الأوّل أنّ حظوظه ارتفعت بعدما أزال عقبة “القوات” من درب وصوله الى بعبدا، فيما يُخطط الثاني لمرحلة الإمساك بكلّ التمثيل المسيحي مستقبَلاً، خصوصاً على مستوى جبل لبنان تمهيداً لطرح نفسه مرشحاً أوحد للرئاسة في مرحلة لاحقة على أساس تثبيت قاعدة وصول المسيحي الأقوى.
ومن أجل ذلك قطعت التحضيرات لقداس احتفالي كبير يقيمه “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” في إحدى كنائس كسروان والتي تهدّمت بفعل وجودها على خطّ التماس بين الجانبين خلال “حرب الإلغاء”، وذلك تكريساً للمصالحة وتكريماً للشهداء الذين سقطوا بفعل النزاع المدمّر الذي حصل بينهما، وإثر الانتقادات القاسية التي صدرت بشأن مصالحة “الشمبانيا” و”قالب الحلوى”.