سامر الحسيني
لا يمكن حصر «تراث» الأسواق الشعبية في البقاع التي تتوسّع جغرافيتها وأماكنها وأيامها في إطار القيمة الاقتصادية والمعنوية التي توفّرها هذه الأسواق الشعبية التي تشهد زخماً متصاعداً مقابل تردي الواقع الاقتصادي وما فعله في توسيع رقعة انتشار هذه الأسواق الشعبية، في ظل لمسة طبعها النزوح السوري على واقع هذه الأسواق التي على ما يبدو قد تحوّلت حارات وأسواقاً سورية وشامية، بفعل الاكتظاظ السوري.
يحفظ البقاعيون الكثير من الحكايا التراثية والتاريخية التي رافقت علاقتهم القديمة مع هذه الأسواق الشعبية التي اعتاد عليها جوارها البقاعي في اطار علاقة «عمر» تتجاوز حدود الـ90 سنة، كما هي الحال مع سوق المرج الذي يُعَدّ الأقدم تاريخياً في البقاع والأكثر شهرة.
عرف البقاع الأسواق الشعبية منذ عشرات السنين، وتوارث الأبناء والأحفاد زيارة هذه الأسواق في مواعيدها التي لم تتغيّر، بعد أن ارتبطت هذه الأسواق الشعبية بيوم من أيام الاسبوع، فسوق الاثنين هو سوق المرج، وسوق الثلاثاء يعني سوق تعلبايا، والأربعاء هو يوم ضهر الأحمر، أما يوم الخميس فيكون من نصيب سوق غزة، ويوم الجمعة هو موعد سوق سحمر. أما جب جنين فلا تزال تحافظ منذ اكثر من 20 عاماً على يوم السبت كموعد لسوقها الشعبي الذي لا يقل أهمية عن سوق الاثنين في المرج، وتحتفظ جب جنين بكثير من ذكريات هذا السوق الذي كان أيضاً سوقاً للمواشي، ثم توسّع ليحتوي على منتجات زراعية، وتختتم أيام الأسواق في البقاع مع سوق يوم الأحد في الصويري.
فسحة للنازحين
أضاف النزوح السوري، صوره وضائقته الاقتصادية على واقع هذه الأسواق الشعبية التي تضجّ اليوم بالبائعين السوريين والنازحين السوريين أيضاً الذين يجدون في هذه الاسواق متنفسا اقتصاديا يساعدهم على تدبر امورهم الاقتصادية واحتياجاتهم المعيشية.
كل الأصناف الشامية لها رفوف وبسطات في الاسواق الشعبية، بدءاً من المحارم السورية الى مواد التنظيف والألبسة والأحذية والأقمشة، عدا الحبوب والحلويات الشامية والبزورات والمأكولات.
يشكل النازحون السوريون أكثر من 70 في المئة من حركة زائري هذه الأسواق التي تطول مساحتها وبسطاتها الى ما يتجاوز سياج هذه الأسواق، كما هي الحال في مختلف أماكنها.
أسواق للجميع
انطلقت فكرة الاسواق الشعبية في بداية العشرينيات في اطار مبادلة وتجارة المواشي وبيعها لا أكثر، ثم تطورت وباتت اسواقاً زراعية لمختلف انتاجات حقول البقاع الزراعية من البطاطا والبصل والثوم والحشائش والتفاح والاجاص والسفرجل وبقية أصناف الفاكهة التي تنتج في البقاع، يضاف اليها اليوم مختلف أنواع الاقمشة والالبسة والخرضوات وحتى الالبان والاجبان والادوية العربية والمواد التموينية والغذائية وأصناف المونة البقاعية.
على مرّ السنين، صمدت هذه الاسواق الشعبية، مقابل توسّع المؤسسات التجارية والاستهلاكية، التي لم تؤد الى تراجع دور هذه الاسواق الشعبية، كما أن رفوف الخضار والفاكهة المزينة في المحال الكبيرة، لم تمنع صفاء من زيارتها الاسبوعية كل يوم ثلاثاء الى سوق تعلبايا لشراء الخضار والفاكهة، في تقليد دأبت عليه منذ 5 سنوات حسبما تقول، لا سيما أنها تخرج من زيارتها التسويقية بوفر يصل الى 20 ألف ليرة، في احتياجاتها الأسبوعية من الخضار والفاكهة، حسبما تقول صفاء.
يلاحظ البقاعيون في الفترة الأخيرة توسّعاً كبيراً طرأ على فكرة الاسواق الشعبية، التي بات عددها يتجاوز أيام الأسبوع، ومردّ هذا التوسع الى استفحال ظاهرة فلتان الأسعار وعدم ضبطها الا في مثل هذه الاسواق التي تشهد مزاحمة كبيرة، تفرض تراجعاً في اسعار المعروضات وان كانت مواصفاتها دون المستوى المطلوب من الجهة الصحية والبيئية.
يشبه البقاعيون أسواقهم الشعبية بـ «أسواق للفرجة»، يمكن ان تجد فيها ما لا يخطر على بال احد، بدءاً من الخرضوات والانتيكا والتحف والالبسة والحبوب والمعلبات وبقية الاصناف التي لا يمكن حصرها او تعدادها.
يتنقل احمد من سوق الى سوق وهو بائع «انتيكا» وخرضوات التي لها مريدوها وزبائنها الذين يهوون جمع بعض المقتنيات التي يمضي ساعات وساعات في عرض اصنافه على الرفوف التي «يبسط» عليها.
كثيرون يأتون اليه مفتشين عن قنديل من الكاز او عن ساعة قديمة العهد او راديو وغلافه القماشي الضخم او اي شيء غير متوفر في اي من المحال التي تنتشر على طول البقاع.
لا تنحصر الزيارة إلى السوق الشعبي إن كان في تعلبايا او جب جنين او المرج وسواها فقط في إطار عملية الشراء، فالعشرات من البقاعيين «يسوحون» داخل رفوف وبسطات هذه الاسواق ومنهم جمال الذي يرتاد منذ سنوات سوق الاثنين في المرج، يستمتع بصراخ الباعة والشارين والمجادلات والمفاصلات في الأسعار.
يسرد جمال مفاصلة في سعر دزينة من فناجين الشاي، دارت بين البائع وإحدى السيدات التي استطاعات أن تشتري الدزينة بـ3 آلاف ليرة، أي أقل بألفي ليرة عن السعر الذي كان قد حدّده البائع.
المفاصلة والمجادلة تسري على كل بسطات واصناف الاسواق الشعبية، وقد تكاد العنوان الأساسي لعملية الشراء، فليس هناك من سعر محدد ونهائي بل يعود السعر الى قوة المجادلة والمفاصلة.
هي أسواق لم يمحها الزمن بل زاد عليها أصنافاً وزبائن هجروا شراء وتبضع «الديكور والإنارة» واكتفوا بما هو «مرمي» على البسطة، لأن المهم هو السعر الأوفر الذي لا يزال متوفراً في تلك الأسواق.