شوقي الحاج
عرفت راشيا الوادي صناعة الفضة، وهي حرفة تراثية قديمة، أيام حكم الشهابيين، الذين أقاموا دفاعاتهم العسكرية، لحكم وادي التيم، خلف أسوار قلعتها الحصينة على التلة الاستراتيجية، التي كانت تُعرف آنذاك بتلة «الريش»، المشرفة على امتداد المنحدرات المتناسلة عند أقدام جبل الشيخ (حرمون). وتفنن الشهابيون في صقل هذه المادة وفي تجميلها وزخرفتها، وفي تطويعها ودقها، وفي تنويع استعمالاتها لغايات الزينة وغيرها. وظلت صناعة الفضة ناشطة إبان الحكم العثماني، حيث برع في صناعتها شبان من آل شاتيلا وآل الراسي وآل أيوب، لكونهم تتلمذوا على أيدي معلم تركي ماهر في هذه الحرفة، مكتسبين خبرة واسعة على مستوى إتقانها، خوّلتهم تطويرها، وتوسيع انتشارها وتسويقها، لتشمل بيروت والشام وبعض الدول الأوروبية وكندا والأرجنتين.. ازدهرت هذه الصناعة ونشطت وأخذ سوقها يتوسّع أواخر القرن التاسع عشر، حتى بلغ عدد المشاغل الناشطة فعلياً على مستوى هذه الصناعة في راشيا، تسعة عشر مشغلاً، يديرها ويعمل بين آلاتها التقليدية، حرفيون مهرة، يزيد عددهم عن الخمسين حرفياً.
انتشار الصناعة
لكن الهجرة الى كندا واميركا والأرجنتين والبرازيل، والانتقال الى المدينة في القرن الماضي، حدّت من نشاط هذه الصناعة واندفاعها، على مستوى راشيا، إنما استناداً الى أقوال بعض كبار السن، فإن البراعة التي اكتسبها الحرفيون الريشانيون في المشاغل التقليدية على مستوى فنون التصميم والدق والتطويع والتجميل والإظهار لمادة الفضة، دفعت حرفيو آل أيوب وآل شاتيلا وآل الراسي وغيرهم من بعض العائلات الريشانية، الى تطوير هذه الصناعة وتوسيعها، على مستوى الانتشار، وقد تمكنوا أيضاً من إنشاء مشاغل الذهب على نسقها، وفتحوا معامل الصاغة في بيروت.
ويقال وفق بعض المعلومات إن حرفيي راشيا هم أول من نجح في إنشاء مشاغل الذهب والصاغات، في الأرجنتين وفي بيروت وفي الشام، وفي بعض المدن التي هاجروا إليها، وعلّموا الكثيرين على فنون وخفايا صناعة هذه الحرفة، من اللبنانيين والشاميين، ويعود الفضل لهم على مستوى انتشار هذه الصناعة في كندا وبعض الدول الأوروبية.
لكن هذه الصناعة خفّ بريقها، وتراجع نشاطها في النصف الثاني من القرن الماضي، وتناقص عدد مشاغلها الى حدود الثلاثة، واقتصر عدد الحرفيين العاملين في هذه الصناعة اليوم، على أصحاب المشاغل، وإن كان البعض منهم يستفيد من مساعدة أفراد عائلته في إنجاز الأشغال التقليدية، التي لا تتطلب مهارة وفناً في متتماتها، تخفيفاً من ارتفاع كلفة التصنيع، لأن المزاحمة الحادة التي تشهدها هذه الصناعة، من المستوردات الفضية الأجنبية التركية والإيطالية والإيرانية، في ظل غياب الحماية المحلية لهذه الصناعة، تؤثر سلباً على حركة تسويق الصناعة اللبنانية، وتجعل هذه الصناعة تخبو الى حدود الاختفاء، في حال عدم وضع حد للمزاحمات الأجنبية.
عصام المقت (صاحب أحد مشاغل صناعة الفضة في راشيا)، أطلق على راشيا صفة «الأم الحقيقية» للصناعات التحويلية للفضة والذهب، ليس على مستوى لبنان وسوريا فحسب، بل على مستوى كندا وبعض الدول الأوروبية، ويلفت الانتباه الى أن صناعة الفضة في راشيا مرّت في فترة ذهبية، حين كان بيت المحترف في بيروت ناشطاً وفاعلاً، محدداً نوعيات الصناعات الفضية القديمة، بالقلادات، والفضيات وزينة الخيول والسيوف، وصناعة بعض الأواني المنزلية والحلى والأساور والخلاخل والأقراط والدبلات.
ويشير المقت الى الصناعات الفضية الحديثة، التي تركزت على صناعة الميداليات، وأقراط الأذن، والعلّاقات على مختلف أنواعها واستخداماتها، والخلاخل والعقود والأساور، والمسابح والخواتم، إضافة الى الشعارات الدينية والوطنية والحزبية وغيرها.
ويؤكد المقت أن راشيا تمتاز بتطوير صناعات حرفية تقليدية تراثية، عرفتها منذ مئات السنين، مثل الفضة والصوبيات والمدافئ ومعدات وآلات تصنيع دبس العنب، وآلات الحراثة وقطع الأشجار التقليدية، حتى أضحت بعض هذه الصناعات في السنوات العشر الأخيرة، تغطي الأسواق المحلية في لبنان، فضلاً عن بعض حاجات أسواق الدول العربية.
ويوضح أن المعدات التقليدية المستخدمة في صناعة الفضة، (من البوري الى السراج الى عدة التلحيم)، قد تم استبدالها بمعدات أكثر حداثة، وهي تتميز بسلاسة استخداماتها. ويشير المقت الى جودة صناعة الفضة الريشانية، ودقتها، وجماليتها، ومتانتها، إلا أنه يشكو من المنافسة الحادة التي تشهدها السوق اللبنانية من من المصنعات الفضية الإيرانية والإيطالية والتركية، التي تغرق السوق اللبنانية، وتباع بأسعار جداً قليلة، باعتبارها تعتمد في تصنيعها على الآلات والمعدات الحديثة، وهي صناعات غير يدوية ولا تتطلب تكاليف مرتفعة على نسق الصناعات الريشانية اليدوية التقليدية.
ويطالب المقت بضرورة تفعيل دور بيت المحترف اللبناني، وإعادة بث الروح في شرايينه، ويشدد على أهمية تشريع القوانين لحماية صناعاتنا من المضاربات الفضية المستوردة من بعض الدول في المنطقة.
ويؤكد المقت أن المرأة اللبنانية المعروفة بأناقتها وحبها للحياة والتبرّج والزينة، لم تتناسَ جمالية سوق الصناعات الفضية، الذي ترتاده باستمرار للتمتع بلمساته وجماليته وشراء معروضاته، بغية إهدائها أو التبرّج بها في المناسبات.