كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:
اضفت عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت دينامية على الاستحقاق الرئاسي واعادة وصل ما انقطع بين الحلفاء. بيد انها توقفت عند هذا الحد: لا الرئاسة قريبة من انتخاب سيد القصر، ولا ترميم التصدّع الغى تناقض الخيارات
اقامة الرئيس سعد الحريري في بيروت ليست طويلة، لكنها ليست مقيدة. احتاج قرار العودة الى مزيد من التشاور في اكثر من اتجاه. بيد انها ارتبطت كذلك ببرنامج محدد لم يقتصر على هبوطه من الطائرة، بل شمل ايضا عدداً من الاجراءات والخطوات والرسائل يقتضي توجيهها تباعاً بدءاً من احياء ذكرى اغتيال والده الرئيس الراحل رفيق الحريري الاحد 14 شباط، باستثناء هفوته حيال رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع في يوم الذكرى.
ما ان خرج على النص المكتوب، المعدّ باتقان في الرياض، سارع جعجع في اليوم التالي، 15 شباط، الى استيعاب تداعياته عندما وصف الهفوة بأنها “مزحة”، وهو يعرف تماماً انها ليست كذلك، ولا يصح ان تكون. على غرار ما اعتاده اللبنانيون في الرئيس السابق للحكومة، ما ان يخرج على النص المكتوب يقع في الاخطاء التي تكون في احيان كثيرة اثقل وطأة من الهفوات وتحفر عميقاً.
اكثر من وجهة نظر ومسعى سبقا عودة الحريري الى بيروت:
1 ــــ الحوارات المسهبة التي اجراها في الرياض مع اركان تيار المستقبل وزراء ونوابا بازاء حظوظ رجوعه، انقسمت من حولها الاراء بين مشجع عليها، ومتريث في الوقت الحاضر ما لم يحمل معه بعضاً من حلول لضائقته المالية تنتشل مؤسساته من الصعوبات التي تتخبط فيها، في ظل معلومات تتحدث عن اعباء مترتبة عليه بازائها تبلغ 100 مليون دولار.
2 ــــ ضرورة استيعابه على الارض، في بيروت، تداعيات ما افضى اليه اجتماع باريس في تشرين الثاني وترشيحه النائب سليمان فرنجيه لرئاسة الجمهورية. تسبّب هذا التفاهم في تباين داخل تيار المستقبل وزراء ونوابا لم يخفه اصحابه، ومع الحلفاء في قوى 14 آذار لم يستثن احزابها المشاركة فيها ولا الشخصيات المستقلة. الا ان حزب القوات اللبنانية، اكثر من سواه، لم يكتف برد فعل الامتعاض والشكوى من التجاهل، بل ذهب الى حد الغضب والخيار المناقض بانضمام جعجع الى ترشيح الرئيس ميشال عون. من الرياض اعاد الحريري لملمة ثغر التململ في تياره بتعليمات صارمة انتهت بالانصياع له، الا ان تصويب علاقته بالحلفاء، وخصوصاً جعجع، كان يحتاج الى لغة مختلفة ومبادرة مكلفة.
لم يكن سهلاً توقع موافقة جعجع على الذهاب الى المملكة كي يتصارح مع الحريري ويصغي الى مبرراته في ترشيح خصمه نائب زغرتا، ولا بدا في امكانه عقد لقاءات بمسؤولين سعوديين هناك لا تسبقها دعوة رسمية او خاصة لمناقشة الخيارين المتعارضين: ترشيحه عون بعد رفضه فرنجيه. لم يكن جعجع، ولا الرئيس امين الجميل، ايضاً في وارد حضور احتفال “البيال” بعد استبعاد المشاركة الشخصية لرئيس تيار المستقبل. سرعان ما احرجتهما عودته المفاجئة فحضرا بوزر عال مزدوج: اولهما ان الجميل الاب كما الابن رئيس حزب الكتائب لم يعتادا من الحريري تدليعاً مفرطاً غير مسبوق ومغالياً به في توقيته خصوصاً بمثل ما حصل نهارذاك، وثانيهما مكافأة جعجع على حضوره رغم الخلاف المعلن بينهما على فرنجيه بالهفوة ــــ الخطأ اسمعه اياها بغبطة.
3 ــــ تشجيع النائب وليد جنبلاط الحريري على العودة الى بيروت من خلال ايفاد الوزير وائل بوفاعور الى الرياض والاجتماع بمدير المخابرات خالد حميدان، في محاولة للوصول الى الدائرة الضيقة لقرار المملكة التي بات يصعب الوصول اليها كما في ظل القيادة السابقة، وخصوصاً مع ولي العهد محمد بن نايف وولي ولي العهد محمد بن سلمان نجل الملك. رمت زيارة بوفاعور الى تشجيع الرأي القائل بالعودة وابراز فوائدها، والسعي الى الحصول على موافقة تشكّل ظهيراً للحريري في لبنان في المرحلة المقبلة.
لاشهر انقضت تحوّل حميدان الذي لا ينتمي الى العائلة المالكة الى حائط مبكى مسؤولين وسياسيين لبنانيين يتوخون توجيه رسائل الى قيادة المملكة التي اختارت منحى مختلفاً، مغايراً الى حد بعيد، في التعامل مع الحريري. بعض مؤشراته السلبية الضائقة المالية التي يتعثر يوماً تلو آخر انفراجها، ناهيك بعدم استقرار علاقة الرئيس السابق للحكومة بولي العهد وولي ولي العهد. بيد ان الابواب الموصدة لم تحل دون العلاقة الوطيدة التي تجمعه بوزير الخارجية عادل الجبير مذ كانا في تسعينات القرن الماضي رفيقي مقاعد الدراسة في جامعة جورج تاون في واشنطن.
4 ــــ التعويل على دور فرنسي، وخصوصاً من الرئيس فرنسوا هولاند السبّاق الى دعم اقتراح الحريري ترشيح فرنجيه، والمثابر على ارسال تمنيات الى المملكة من حين الى آخر لمساعدة الحريري على المضي في الخيار الرئاسي الجديد، في محاولة تقوده هو بدوره الى السرايا على نحو يتكامل ترئيس فرنجيه الجمهورية مع ترئيس الحريري الحكومة. افضى الجهد الفرنسي الى تسهيل الطريق امام موافقة الرياض على عودة الرجل. من دونها لم يكن يسعه الاقدام على مجازفة كهذه. بيد انها اقترنت ببرنامج لا يكتفي بتعزيز خيار ترشيح فرنجيه، بل يحمل معه في خطاب مدروس ــــ متفق على محتواه ولا تكون الرياض بعيدة من المضمون ما دامت معنية به ــــ توجيه رسائل سياسية يتجاوز صداها الداخل اللبناني الى الخارج في مناسبة تكتسب اهتماماً خاصاً. هو مغزى الحملة العنيفة التي قادها الحريري منذ مطلع خطاب “البيال” على ايران، وكذلك حزب الله عندما ساوى بين دوريه الداخلي بتحميله مسؤولية تعطيل انتخابات الرئاسة، والخارجي حيال مشاركته في الحرب السورية والالتصاق بايران ملحقاً بعبارة اطلقها ان لبنان لن يصير ولاية ايرانية.