مع تدهور أسعار النفط لا يبقى أمام الجزائر سوى تنفيذ إصلاحات اقتصادية مؤلمة تنفض مخلفات حقبة الاشتراكية وتعيد الاعتبار أيضا للقطاعات التقليدية بتقنيات حديثة، والسؤال المطروح كيف السبيل إلى ذلك في ظل إرادة سياسية مترددة؟
كانت الجزائر حتى أوائل ستينات القرن الماضي من أهم البلدان العربية المصدرة للقمح والشعير والأبقار والنبيذ ومنتجات زراعية أخرى إلى أوروبا. غير أن الجزائر الزراعية والحرفية ولت لتحل محلها جزائر تعتمد على النفط والغاز. المنتجات الزراعية اليوم شبه غائبة عن الصادرات في حين تشكل هذه المنتجات 18 بالمائة من الواردات التي وصلت قيمتها الإجمالية إلى نحو 59 مليار دولار عام 2014. ولا يبدو حال الصناعة الجزائرية التحويلية أفضل. فمشاريع سبعينات وثمانينات القرن الماضي الطموحة التي كلفت عشرات المليارات من الدولارات في صناعة الآلات والجرارات والسيارات والحديد والصلب تراوح مكانها وبقيت دون متطلبات السوقين المحلي والخارجي. وقد غطى على عيوب الصناعة وتدهور القطاعات التقليدية الدور الطاغي لقطاعي النفط والغاز خلال العقود الأربعة الماضية. وتشكل صادرات هذين القطاعين 97 بالمائة من مجمل الصادرات الجزائرية التي زادت قيمتها على 63 مليار دولار عام 2014. غير أن أسعار النفط تراجعت منذ ذلك الحين بنسبة 70 بالمائة، ما وضع البلد أمام تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة.
حديث مستمر عن الإصلاحات لكن دون تنفيذ
يشكل عجز الموازنة الجزائرية إلى جانب البطالة المتفشية في صفوف الشباب أبرز هذه التحديات، لاسيما وأنها تتحمل عبء الدعم الاجتماعي للسلع الأساسية كالخبز وزيت المائدة والسكر والكهرباء والوقود إضافة إلى تمويل مشاريع البنية الأساسية والتعليم والصحة والدفاع والأمن وخدمات عامة أخرى. ويتفق معظم الخبراء على قدرة البلاد تمويل العجز من الاحتياطات المالية التي تم توفيرها من أيام الطفرة النفطية لمدة ثلاث سنوات. وتقدر هذه الاحتياطات بحدود 130 إلى 150 مليار دولار. الأمر الذي يعني اللجوء بعد استنفاذ الاحتياط إلى الاقتراض إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المعطيات الحالية لا تشير إلى ارتفاع قريب في أسعار النفط. وحتى لو تحسنت الأسعار فإن تنويع الاقتصاد -الأمر الذي لا مفر منه- هو تنويع الاقتصاد الجزائري من خلال إعادة الاعتبار للزراعة والقطاعات التقليدية الأخرى إضافة إلى خصخصة المؤسسات الصناعية العامة وتوفير مقومات تحفيز القطاع الخاص في القطاعات الإنتاجية بهدف فك تبعية إيرادات البلاد للنفط والغاز. غير أن تحقيق هذا الهدف مرتبط بتنفيذ إصلاحات اقتصادية عميقة ومؤلمة للغالبية بمن فيهم الفئات المستفيدة من الوضع الحالي وفي مقدمتها فئة رجال الأعمال الكبار المرتبطة مصالحهم بشكل مباشر مع مصالح العديد من الجنرالات وصناع القرار السياسي والأمني. ويجري الحديث عن هذه الإصلاحات منذ عقود. لكنها لم تنفذ على أرض الواقع بشكل ملموس بسبب غياب الإرادة السياسية من جهة وعودة أسعار النفط إلى الارتفاع بسرعة نسبية بعد كل تراجع.
هل التوجه إلى الإصلاح أمر جدي؟
السؤال الذي يطرح نفسه هل تؤخذ الإصلاحات التي تبدو حاليا مصيرية للاقتصاد الجزائري هذه المرة بجدية، لاسيما وأن أمام البلد عشر سنوات فقط لتنويع مصادر الدخل على حد تعبير محمد حاميدوش المحلل والخبير لدى البنك الدولي في حديث مع DWعربية. الخبير حاميدوش يرى أن الإصلاحات الاقتصادية التي بدأت مؤخرا برفع أسعار الوقود والكهرباء تبدو جدية هذه المرة. وضرب مثلا على ذلك النقاش الدائر حاليا على أعلى المستويات حول ضرورة إعادة هيكلة نظام دعم السلع الأساسية والخدمات العامة بحيث يخصص الدعم لمن يستحقه من الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل بدلا من تعميمه بشكل عشوائي على جميع المستهلكين بمن فيهم الأثرياء كما هو عليه الحال حاليا. وتكلف سياسيات الدعم الحكومي سنويا الميزانية ما لا يقل عن 30 مليار دولار. وأضاف حاميدوش أن هناك توجها لدعم المنتج الزراعي والمنتجين الآخرين على أساس مبادئ الدعم التي تتبعها دول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى للقطاعات الحيوية والعامة لفتح أسواق للصادرات. وردا على سؤال فيما إذا كان هناك إرادة سياسية فعلية لتطبيق الإصلاحات هذه المرة يرد حاميدوش بأن “الإصلاحات ليست نابعة من قناعة بقدر ما هي ضرورة تفرض نفسها على صناع القرار بسبب الضغوط المتزايدة الناتجة عن تدهور أسعار النفط في غضون سنتين”.
مشكلة البطالة لا يرتبط فقط بتوفير المال
أما بالنسبة للتحدي المتعلق بالبطالة فقد خصصت الدولة خلال السنوات العشر الماضية عدة مليارات من الدولارات لتشجيع مشاريع الشباب في إطار برامج دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعرض القروض بشروط مغرية. غير أن نتائج هذه البرامج ما تزال ضعيفة بدليل انتشار البطالة بشكل واسع في صفوف الشباب الجزائري واحتجاجاته المتكررة على أوضاعه المعيشية. وفي هذا الإطار، لا يبدو حل هذه المشكلة مرتبطا فقط بتوفير الأموال بشروط ميسرة بل بصعوبة الحصول عليها لأسباب لعل من أبرزها تخلف النظام المصرفي والفساد والبيروقراطية في الإدارات الحكومية.
أضف إلى ذلك وجود مشاكل أخرى جوهرية ناجمة عن الحقبة الاشتراكية. ومن بينها صعوبة الحصول على العقار اللازم للمشروع بسبب ملكية الدولة الواسعة للأراضي وبطء إجراءات وضعها تحت تصرف المشاريع الناشئة على حد تعبير حياة بومدين التي أسست شركة صغيرة في مجال التنظيف والبيئة في حديث مع DWعربية. فعلى الرغم من مضي خمس سنوات على تأسيسها ما تزال بومدين تنتظر استلام المحل الذي وعدتها به السلطات. كما أنها لم تستطع الحصول على قطعة أرض من أجل توسيع شركتها في مجال البيئة والتخلص من النفايات.
التجربة المغربية مهمة للجزائر وتونس
الخبير حاميدوش يقر بالدور المنفر لمخلفات الحقبة الاشتراكية ليس فقط على صعيد العقارات، بل أيضا على صعيد ملكية المؤسسات الاقتصادية من قبل الدولة. “أنا لا أؤمن بالقطاع العام للمؤسسة الاقتصادية التي ينبغي أن تكون مستقلة إداريا وماليا كي تستطيع الوفاء بمتطلبات السوق ومواجهة المنافسة وتحقيق الربح”. حاميدوش يرى بأن الأوضاع الاقتصادية الصعبة في الجزائر وبلدان أخرى كتونس ينبغي أن تكون حافزا لهما للاستفادة من التجربة المغربية. فمن خلال دراسات واستشارات عالمية للتعرف على ميزته التنافسية نجح المغرب في استقطاب شركات وشراكات عالمية في مجال صناعة السياسات والصناعات الغذائية والألبسة والطاقات المتجددة وصناعات تحويلية أخرى تخلق عشرات الآلاف من فرص العمل. وتبدو الصناعة المغربية حاليا في مستوى يؤهلها للمنافسة العالمية وتأسيس قاعدة لتحقيق تنمية مستدامة تساهم في حل مشكلة البطالة وخاصة في صفوف الشباب الذين يشكلون غالبية قوة العمل العربية. وبدون تنمية كهذه لن تنجح التجربة الديمقراطية التونسية وسيكون الاستقرار السياسي والاجتماعي في الجزائر مهددا في أية لحظة.