تحت تأثير إنخفاض أسعار النفط العالمية والعقوبات الغربية على روسيا، تقلص الناتج المحلّي الروسي بنسبة 3.7% في العام 2015. ويبقى السؤال الأساسي عن كيفية تعامل الكرملين مع هذا الواقع في ظل توقعات إستمرار الظروف الجيو-إقتصادية على ما هي عليه لفترة طويلة.
تبقى مسألة عدم الثبات في أسعار النفط العالمية معضلة كبيرة للسلطات الروسية التي تواجه منذ أواسط العام 2014، إنخفاضاً في أسعار النفط تحت تأثير عوامل جيوسياسية وجيو-إقتصادية. ولم تستطع الحكومة الروسية التوصل إلى حلّ إقتصادي يسمح لها بتدارك المفعول المُضاعف لإنخفاض أسعار النفط والعقوبات الإقتصادية. وهذا يجعلها أكثر إستعداداً لحوار مع دول الأوبك بهدف خفض الإنتاج اليومي للنفط، وبالتالي إرتفاع الأسعار. لكن الإتفاق الأخير الذي توصلت له روسيا مع دول الأوبك والذي ينص على تجميد الإنتاج عند مُستواه بتاريخ 1 كانون الثاني 2016، يبقى ذا محدودية من ناحية التأثير على الأسعار.
ويبقى السؤال حول إمكانية روسيا الإستمرار على هذا النحو، والسبل لتخطّي الأزمة بأقل ضرر مُمكن.
بُعيد تفكك الإتحاد السوفياتي، كانت الأولوية للسلطات الروسية الحفاظ على النظام وعدم إنهيار الدولة إقتصادياً. وعند وصول قيصر روسيا إلى سدّة الرئاسة، كانت الوسيلة الأكثر نفعاً لتحقيق هذين الهدفين تكمن في فرض هيبة النظام عبر الماكينة العسكرية، وتطوير القطاع النفطي والغازي. وبين العامين 2000 و2014 إستطاع بوتين رفع صادرات روسيا من النفط 500% ومن الغاز 230%. وبالتالي أصبح الإقتصاد الروسي أكثر تعلقاً بالنفط بحيث أصبح النفط يؤمن 80% من مداخيل الدولة الروسية.
لكن هذا الأمر جعل من روسيا رهينة للتغيرات العشوائية للأسعار العالمية وبالتالي العشوائية في المداخيل. أضف إلى ذلك أن روسيا جعلت من فرض هيبتها أولوية، مما دفعها إلى المواجهة مع المُجتمع الدولي، وبالتالي أصبحت تتعلق بالطلب العالمي بشكل سمح للدول الغربية بتوجيه ضربة قوية للإقتصاد مع فرض عقوبات إقتصادية على روسيا.
في ظل هذا الواقع، لم يتأثر الإنتاج الروسي من النفط والغاز بالأسعار العالمية المُنخفضة، ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى تراجع الروبل، ما قللّ الكلفة على القطاع النفطي بحكم أن الإنفاق يتمّ بالروبل الروسي والمداخيل بالدولار الأميركي. أضف إلى ذلك قرار السلطات الروسية بتخفيض الرسوم الجمركية على التصدير، ما أعطى دفعاً إيجابياً للشركات لكن ليس للخزينة الروسية التي أخذت مداخيلها بالتراجع. ومع التوقعات بإستمرار العرض على ما هو عليه خلال العام 2016، من الطبيعي القول أن التداعيات السلبية على الخزينة الروسية ستستمر لفترة خصوصاً مع عودة الجمهورية الإسلامية في إيران إلى سوق النفط ورفع العقوبات الإقتصادية عنها، والإستراتيجية العراقية التي تهدف إلى زيادة الإنتاج. أضف إلى ذلك السيطرة السعودية على قرار منظمة الأوبك والذي يعكس وزنها النفطي في السوق العالمي، والذي، بسبب الأزمة السورية والموقف الروسي منها، يمنع أي إمكانية لتقليص العرض في ظل الظروف الحالية. والجدير بالذكر أن الإنتاج اليومي الرسمي لدول الأوبك يبلغ 30 مليون برميل، لكن دول الأوبك لا تحترم توزيع الحصص وبالتالي، فإن العرض تخطى ما هو مُتفق عليه.
على صعيد آخر، أتت العقوبات الغربية (الولايات المُتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى) كنتيجة للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا. هذا الأمر أثار مخاوف الغرب من طموحات هتلرية لقيصر روسيا، وبالتالي كان من الضروري للمجتمع الدولي لجم قدرة روسيا العسكرية وذلك عبر العقوبات الإقتصادية.
وبما أن العقوبات الإقتصادية على الطريقة “الأميركية” هي عقوبات تدريجية، فإن الوضع الحالي لهذه العقوبات هو كالأتي: (1) منع المواطنين والشركات الأميركية والأوروبية من شراء أدوات مالية روسية تحت طائلة التجميد، (2) تقييد الإستثمارات الروسية عبر منع الشركات الروسية من الإستدانة لأكثر من 90 يوما، ما يعني عدم قدرة هذه الشركات على تمويل البنية التحتية الحرارية، (3) تقييد نقل التكنولوجيا للشركات الروسية، ما يعني وقف تطورها وبالتالي خسارة أسواق تجارية.
والجدير بالذكر أن الولايات المُتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي يملكون القدرة على تشديد العقوبات أكثر، إلا أن الإستراتيجية المُتبعة في فرض العقوبات تهدف إلى دفع الإقتصاد الروسي إلى التآكل ببطء. كما أن هناك مخاوف من أن تعمد روسيا إلى ردات فعل عسكرية غير مُحبّذة في حال تمّ فرض عقوبات كاملة عليها.
أما مالياً، وخلال أيام المجد (2000-2014)، كان ميزان المدفوعات الروسي يُسجّل فائضاً بفضل إرتفاع أسعار النفط. وإستطاعت روسيا بذلك تكوين إحتياط من العملات الأجنبية بقيمة 500 مليار دولار أميركي (أوائل 2014). لكن مع بدء إنخفاض أسعار النفط، بدأت الحكومة الروسية بإستخدام هذا الإحتياط من العملات والذي سجل تراجعاً مخيفاً في فترة قصيرة (أكثر من 150 مليار دولار في فترة سنة). وعلى هذا المُعدّل من المُتوقع أن تفقد روسيا إحتياطها في فترة أقصاها خمس سنوات. ومع غياب أي وسيلة أخرى لإيجاد مداخيل تُعوض مداخيل النفط، قامت الحكومة الروسية بالتوجه إلى السوق الآسيوي آملة بذلك إيجاد حلّ. لكن الواقع الركودي للإقتصاد العالمي لا يُسهّل المهمة على السلطات الروسية التي ستجد نفسها عاجلاً أم آجلاً أمام خيارين: الأول التراجع عن مخاطراتها العسكرية والإنسحاب من أوكرانيا (وهذا ما لن يحصل) والثاني اللجوء إلى سياسية تقشفية غير شعبية تطال الأجور، السياسة الإجتماعية، زيادة الضرائب والرسوم. وهذا ما تريده الولايات المُتحدة الأميركية لكي تتمّ معاقبة بوتين في الإنتخابات القادمة هذا العام.