كتب ايلي الفرزلي في صحيفة “السفير”:
أين النفايات من زحمة الأجندة السياسية التي شهدها يوم أمس؟ ومن الذي قرر أن يعطي الأولوية لكل شيء إلا للمسألة التي تعني كل لبناني في صحته وحياته؟ ولماذا تقرر دهس اجتماع اللجنة الوزارية، الذي كان مقرراً بعد ظهر أمس، تحت أقدام المواكب التي كانت تتنقل بين السرايا وبيت الوسط؟ وهل كان حضور معظم أعضاء اللجنة للمؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الحريري أهم من حضورهم الاجتماع؟
الأكيد أن الملف الذي يفترض أن يكون الأهم ويعطى كل الأولوية، تاه في زحمة الاجتماعات المصيرية والمؤتمرات الصحافية، فتاهت معه الأرقام التي وثقتها وزارة الزراعة مؤخراً، والتي تؤكد أن اللبنانيين يواجهون تلوثاً في المياه والهواء، هو الأسوأ في التاريخ.
من ظن أن فشل الترحيل سيؤدي إلى دق السلطة لناقوس الخطر واستنفار مكوناتها لإيجاد البديل العلمي والجدي للمرة الأولى بعد أشهر من التخازل والبحث عن الصفقات، أيقن سريعاً أن الحكومة «فالج لا تعالج». وهي إذ فقدت الحياء في التعامل مع الملف، لن تكترث بمن عاش بين النفايات لـ7 أشهر، أن يضيف إليها المزيد.
اجتمعت اللجنة الوزارية مرة واحدة بعد انهيار صفقة الترحيل، فكان النقاش بمثابة الترف السياسي. مفهوم إدارة الكوارث ليس من ضمن خبرات مجلس الوزراء، أو أنه لا يعتبر أن الوضع كارثي. الهدوء زينته في التعامل مع كل القضايا التي تخص حياة الناس. يجتمع اجتماعاً طارئاً لمعالجة تداعيات القرار السعودي وقف الهبة إلى الجيش، لكن النفايات التي تملأ الطرق ليست أمراً طارئاً يستدعي الاجتماع، بعد انكشاف صفقة الترحيل. ذلك أمر صار الناس يعتادونه كما يعتادون سحب الدخان التي ترحّل السموم من محارق النفايات إلى رئتي كل منهم.
الكل صار يعرف أن مجلس الوزراء سيعود إلى المطامر، لكن المشكلة، بعد كل هذه الأشهر الضائعة، أن المقاربة لم تتغير. ما يزال النقاش يدور حول طوائف هذه المطامر، ولا إشارات لمساع جدية تضع القطاع على سكة الإصلاح.
الفرز ليس من الأولويات، ولو كان كذلك، لما واجهت المطامر هذه المعارضة من أبناء المناطق المختلفة. لكن أن يرمى كل شيء في أحضان الطبيعة، بحراً أو جبلاً أو وادياً أو سهلاً، فمهما ألصقت المطامر بعبارات ملطفة على شاكلة «صحية»، لن تغير من حقيقة أن طمر كل النفايات لا يمكن أن يكون صحياً.
حتى اليوم لم تنضج الطبخة بعد، لكن من يتابع طباخيها، يلاحظ سعياً إلى تقسيم «التركة» بين مطمر الناعمة، الذي تردد أن النائب وليد جنبلاط قد لا يمانع فتحه في وجه نفايات الشوف وعاليه حصراً، مقابل تجهيز مطمر «الكوستا برافا»، الذي لن يعطي النائب طلال ارسلان موقفاً حاسماً منه إلا عند تسلمه الطلب رسمياً، فيما قد يستفيد «المستقبل» من تأثير وجود رئيسه شخصياً، ليقنع أهالي عكار بفتح مطمر سرار، من دون نسيان مطمر برج حمود، الذي لم يغب عن طاولة البحث.
باختصار، التركيز ما يزال منصباً على «المونة» السياسية لهذا الزعيم أو ذاك على أهالي هذه المنطقة أو تلك، فتتناسى اللجنة عمداً أن اللجوء إلى الفرز والتسبيخ يخفف كمية النفايات المطمورة إلى ما دون النصف، فيما هي حالياً تزيد عن 95 بالمئة.
ما الذي يمنع الحكومة من تطوير معامل الفرز الحالية، لتصبح قادرة على استقبال كميات أكبر من النفايات؟ لا أحد يعرف. ولماذا تفضّل الذهاب إلى الحلول المعقدة، كالترحيل وطمر كل الكميات؟ لا أحد يعرف. لكن ثمة من يؤكد أن إيجاد أي حل عملي حالياً، سيحرم السلطة من صفقة المحارق، لأنه سيتبين أن لا حاجة فعلية لها.
إذاً، ليس مطلوباً من اللجنة التي لم تجتمع أمس أكثر من العودة إلى السهل الممتنع، وهو يتمثل أولاً بتخفيف النفايات، ثم فرزها من المصدر، والتخلي عن الشاحنات الضاغطة التي تحطم الزجاج وتمزق المواد البلاستيكية ما يجعل فرزها متعذّرا عبر الغربال المعتمد في المعامل ويدويا. وهذا يؤدي إلى مشكلتين: الأولى احتواء النفايات التي يفترض تسبيخها على زجاجيات وبلاستيك، بما يؤدي إلى تخفيف الكمية الممكن تسبيخها. وثانياً زيادة الكميات التي تطمر، ما يعني زيادة كلفة النقل. ومواجهة هاتين المشكلتين علمياً، سيؤدي عملياً إلى إعادة تدوير ما لا يقل عن 35% من النفايات وإعادة استعمالها لحاجات الصناعة. كما ترتفع نسبة المواد القابلة للتسبيخ من المواد العضوية الى ما لا يقل عن 55% من النفايات. ما يعني أن الطمر سيقتصر على نحو 20 بالمئة من مجمل النفايات.
وهذه الخطوات ليست مستحيلة، وسبق أن أكدها الحراك المدني في بداية أيلول، لكنها تحتاج إلى تحمل الدولة لمسؤوليتها ولو لمرة واحدة، مع إشراك البلديات جدياً في الحل.