شكّل القرار السعودي بوقف المساعدات للجيش وقوى الأمن الداخلي ومراجعة العلاقات مع لبنان، ضربة موجعة للجسم الاقتصادي المترنّح اصلاً على وقع العواصف الداخلية. وفيما غذّت الأنباء الثقيلة الانقسام السياسي الحاصل، فإنَّ الموضوع بدأ يُثمر توتراً بين مواطني البلدين وترحيلاً لبعض الفئات العاملة في المملكة. وإذا لم تتخذ الحكومة موقفاً يلطّف الأجواء، فإنَّ البعض يرى أنَّ الاقتصاد المحلي مقبل على الانهيار.
لا تُعتبَر التأثيرات السلبية للمصالح السياسية المتناقضة على العلاقات مع السعودية وليدة الساعة، إذ يعيدها المطّلعون على الموضوع إلى الأعوام المنصرمة، وإلى الممارسات الحكومية والمواقف “التي لا تثبت عروبة لبنان ودعمه لأشقائه العرب، في حين أنَّ هؤلاء لم يوفروا جهداً لدعمه في وجه المحن”، وفق رئيس هيئة تنمية العلاقات الاقتصادية اللبنانية – السعودية إيلي رزق.
ويقول لـ”النهار” إنَّ السعودية على رأس الدول التي ساندت لبنان، إن من خلال ودائع مالية ومساهمات تساعد في دعم الإقتصاد، أو عبر استيعاب طالبي فرص العمل في الأسواق الخليجية، معتبراً أنَّ “الموقف الرسمي اللبناني يغرّد خارج سربه العربي”.
ولو كانت تلك المواقف صادرة عن أحزاب غير ممثلة في الحكومة، لـ”كان وقع القرارات السعودية أخف”، وفق رزق الذي يذكّر بالجهود التي بذلتها الجاليات اللبنانية الممثلة في مجلس العمل والاستثمار في المملكة، وذلك عبر تنظيم وفود من المقيمين في جدة والرياض لمناشدة المسؤولين اللبنانيين الحرص على أن تكون مواقفهم متناغمة مع مصلحة العاملين في الخليج.
وقد بدأت العلاقات التي تجمع المغتربين اللبنانيين بالمواطنين السعوديين تتزعزع، إذ لـ 99% من هؤلاء رب عمل سعودي، شريك، أو حتى كفيل، بدليل أنَّ هؤلاء بدأوا ترحيل اللبنانيين، خصوصاً الحلاّقين ومعلّمي الشاورما والعاملين في المطاعم، بحسب رزق الذي يرى أنَّ هذا الامر لا يحتاج إلى قرار رسمي سعودي.
ويضيف أن “للخطوة السعودية انعكاسات خطيرة على المستوى الإقتصادي تُضاف إلى تراجع الإقبال العربي على لبنان في الآونة الأخيرة، والمتمثل في التدني الحاد في عدد الشركات المستثمرة في البلاد، والذي وصل إلى 8 شركات عاملة، فضلاً عن وجود نية لسحب الاستثمارات السعودية من لبنان، أقله في القطاع الخاص، ولجوء السعوديين إلى بيع عقاراتهم بنسبة ناهزت 70% في المناطق الجبلية و34% في المناطق الساحلية، وتدني مستوى المساهمة في “سوليدير” من 18% إلى نحو 3% وتدهور عدد السياح الخليجيين وصولاً إلى أدنى مستوياته”.
ويشير رزق إلى أنَّ الحل يقضي بأن يتخذ رئيس الحكومة تمام سلام موقفاً واضحاً وصريحاً، يؤكد من خلاله عروبة لبنان ويدين الاعتداء على سفارة المملكة في طهران، إلى جانب تأليف وفد لبناني رفيع المستوى يزور السعودية ودول الخليج ويشدّد على عروبة لبنان. أما إذا لم يحصل ذلك، فإنَّ فصيلاً سياسياً في لبنان سيجعل من البلاد رهينة محور لا يريده قسم كبير من اللبنانيين”.
السياسة توقد الاقتصاد
بعد القرار السعودي الذي يُنذر بإمكان اتخاذ خطوات تصعيدية، تتجه الأنظار نحو الخطوات التي يمكن أن يتّخذها أهل الاقتصاد للمساهمة في إعادة المياه إلى مجاريها.
وفي هذا السياق، شدّد رئيس غرفة التجارة والصناعة والخدمات في بيروت محمد شقير لـ”النهار” على أنَّ الاقتصاد اللبناني يعتمد بشكل كبير على دول الخليج، خصوصاً أنَّها أرض خصبة لصادراته الصناعية والزراعية، بدليل أنَّ 50% من الصادرات الصناعية تصبّ في أسواقها، في مقابل ما نسبته 70% من الصادرات الزراعية التي تدخل اليها، فضلاً عن أنَّ اللبنانيين المغتربين فيها يحوّلون إلى لبنان أموالاً تنعش اقتصاده.
ويؤكّد أنَّه إذا لم تصحّح العلاقات الثنائية بين البلدين، فإنَّ الاقتصاد المحلّي مقبل هذه المرة على الانهيار، وليس على التراجع كما جرت العادة.
من جهته، يحمّل المدير التنفيذي في مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان الطبقة السياسية والنموذج الاقتصادي المعتمد منذ عقود، مسؤولية ما آلت إليه الأمور في واقع العلاقة الحالية مع السعودية.
ويشير الى انه “كان يمكننا تفادي الوقوع في هذا المأزق لو عملت القوى السياسية ونخب رجال الأعمال سابقاً على احتضان الشباب الذين سافروا إلى الخارج، ولو كانت وفرت فرص تحديث بنى الاقتصاد الوطني وعزّزت دمج الشباب المتدفقين سنوياً إلى سوق العمل في نشاطات اقتصادية نبيلة وذات قيمة مضافة عالية تتلاءم ومؤهلاتهم وخبراتهم العلمية، وشجّعت كذلك على تحسين شروط العمل حيال مستوى الأجر الفعلي والضمانات الاجتماعية ومسارات الترقي المهني، بدل دفعهم إلى الهجرة والتعامل معهم بعقلية “مركنتيلية” كمصدر فقط للتحويلات، متجاهلة بذلك ما أُنفق من مليارات الدولارات لتعليمهم في وطنهم الأم.
ويعتبر أنَّ السياسيين يستسهلون الاعتماد على هذه التحويلات لتغطية العجز المالي المتنامي منذ أن توقف إصدار الموازنات السنوية وعمليات قطع الحساب السنوية منذ عام 2005، ما شجّع الاهدار في الإنفاق العام على كل الصعد.
في هذا السياق، استشهد بدراسة للبنك الدولي صادرة في حزيران 2015، قدّرت تكلفة الفساد المستشري والعلاقات الزبائنيّة المرافقة للسياسات العامة، بنحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
ويتوقع حمدان أن تكون التبعات الاقتصادية للقرار السعودي مفتوحة على كل الاحتمالات، مشيراً إلى أنَّه على المملكة أن تزن أي قرار يقضي بأي تسريح أو ترحيل محتملين للعمالة اللبنانية، خصوصاً أنَّها ستواجه في المدى القصير صعوبات في إيجاد بدائل لهذه اليد العاملة التي تتمتّع بخبرات، وكفايات وتحصيل علمي يميّزها عن كثير من أبناء الجنسيات الأخرى الوافدة إلى ربوع المملكة.