يشغل الملف الصحي بال اللبنانيين كثيراً، ويزيد ملف النفايات وانتشار الأمراض بسببها، الأمر سوءاً. ناهيك بتفشي الفيروسات الذي يشكّل الخطر الأبرز على حياة المواطنين، خاصة وان الفيروسات تظهر بشكل متواصل وبأعراض خطيرة، متنقلة بين بلد وآخر. فأين لبنان من هذا الأمر، وأين تحصيناته الصحية؟
يرى رئيس الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية، النائب السابق اسماعيل سكرية، أنّ الملف الصحي هو “الصندوق الأسود الذي يكشف ويفضح جميع من يتعاطى في هذا الملف، فهؤلاء يتعاطون مع ملف الصحة كما يتعاطون مع زفت وزارة الأشغال”. هذه المقاربة للملف الصحي من قبل المسؤولين، تجعل من التغطية الصحية والمختبرات “في خبر كان”. أما تعامل الكثير من المستشفيات والأطباء وحتى الجمعيات الخيرية، مع هذا الملف، فهي تشبه التعامل مع منجم ذهب يستفيدون منه لمراكمة الثروات. وللوقوف أكثر على هذا الملف كان لـ “المدن” هذه المقابلة مع سكرية.
* هل الفاتورة الصحية مرتفعة في لبنان، أم هناك تضخيم للواقع؟
يمكن الإستدلال على الواقع إذا احتسبنا حجم ما ينفقه المواطن مقارنة مع مدخوله وقدرته الشرائية، عندها يمكن الجزم بأن الفاتورة الصحية مرتفعة جداً مقارنة ببعض الدول العربية والعالمية. فالمواطن اللبناني ينفق سنوياً حوالي 300 دولاراً على الدواء، كمعدل وسطي، في حين ان المواطن في دول مجلس التعاون الخليجي ينفق حوالي 85 دولارً، وفي الأردن حوالي 45 دولاراً، اما في مصر فينفق حوالي 28 دولاراً، وفي سوريا حوالي 24 دولاراً.
وعموماً، بلغت كلفة الفاتورة الصحية في لبنان 3.8 مليار دولار للعام 2015، في حين وصلت فاتورة الدواء الى 1.5 مليار دولار، أي ان نسبتها من الفاتورة الصحية حوالي 38%، وهي اعلى نسبة في الدول العربية وفي العالم. وتجدر الاشارة الى ان هناك حوالي 600 نوع دواء موجودة في السوق اللبنانية.
* ما هو سبب الإختلاف الكبير في الكلفة، ألا يمكن التحكم به؟
الإختلاف الكبير يأتي بشكل أساسي من تعاطي المسؤولين عن الملف الصحي انطلاقاً من الاقتصاد الحر. لكن هؤلاء يرفعون كلمة حق يراد بها باطل، إذ لا يمكن التعامل مع صحة المواطن وكأننا في سوق للبيع والشراء، وهذا التعاطي هو ما يفسر ارتفاع الكلفة. وما لا يعرفه المواطن، هو لجوء بعض المستشفيات والأطباء والمختبرات الى تحصيل أموال من المواطنين من دون وجه حق، مستندين الى فحوصات وصور أشعة لا حاجة لها، وطبعاً كلها أكلاف إضافية. فعلى سبيل المثال، يطلب أحد الأطباء من مريضه إجراء 10 فحوصات، في حين انه يحتاج الى 3 منها، فيدفع المريض كلفة 10، ويحصل الطبيب على عمولة من المختبر، نتيجة الإتفاق المسبق معه على هذه اللعبة. اما الفحوصات الـ7 الباقية، فلا يجريها المختبر أساساً، ويسجل نتائج وهمية.
أيضاً هناك تلاعب في صور الـ”سكانر”، حيث يطلب الطبيب صورة ويجريها المريض في إحدى المستشفيات التي يتعاقد معها الطبيب، فيأخذ الطبيب نسبة من كلفة الصورة. وأحياناً كثيرة يطلب مدير المستشفى من أحد الأطباء زيادة عدد تحويلاته للمرضى الى صور الـ”سكانر”، لمراكمة الأرباح.
قد تكون هذه المعلومات غريبة بالنسبة للكثير من الناس، لكنها حقيقة ملموسة لا يعرفها الا من يغوص الى أعماق الملف الصحي. فهل يعرف المواطن ان في لبنان حوالي 42 آلة رنين مغناطيسي، وان عدد آلات الـ”سكانر” لا يجب ان يكون عشوائياً؟ فمنذ حوالي 3 أشهر، كان في لبنان 127 آلة، يعني آلة لكل 32 ألف لبناني تقريباً، في حين انه في فرنسا، هناك آلة لكل 200 ألف مواطن، ويُدرس طلب كل صورة بحسب الحالة المرضية، فليست كل الحالات تستدعي الصورة. لكن في لبنان يُستسهل إجراء الصورة للإسفادة من الكلفة المادية، ويتم إدخال الآلات وتأمين أسواق لها.
* أين لبنان من إنتاج الأدوية؟
في لبنان 8 مصانع لإنتاج الأدوية، بينها مصنعان ينتجان حقناً وأمصالاً، لكن غياب دعم الدولة، أفقد الصناعة الدوائية اللبنانية قدرتها التنافسية، وذلك يأتي دعماً للقطاع الخاص، تماماً كما يحصل في القطاع التربوي والمستشفيات الحكومية. وما حصل لمركز المعلوماتية الدوائية أكبر برهان على غياب الدولة، فالمركز كان أول مركز من نوعه في العالم العربي، ويومها (عام 1989) تم إنشاء المركز وتجهيزه بآلات وبفريق عمل كبير، لكنّ المشروع توقّف دون سبب معلن. وفي العام 1996 أعيد تفعيل المركز، لكنّ كل المعلومات التي سجّلها بيعت، وأعيد وقف العمل به. وقيمة المركز انه يوفر معلومات كاملة عن سوق الدواء، لناحية كمية ونوعية الأدوية الموجودة في السوق، وبلد المنشأ وتاريخ صلاحيتها، فضلاً عن أسماء وعناوين الشركات المستوردة والتجار، والكثير الكثير من البيانات المهمة، لكن بقدرة قادر، تعطّل الحاسوب وبيعت المعلومات.
* تستفيد شركات تصنيع الأدوية واللقاحات، مادياً، من انتشار الفيروسات. هل هناك علاقة بين إنتشار الفيروسات واستفادة الشركات منه، ام ان ذلك يكون عرضياً؟
قد يفاجأ البعض إن عرف أن كبريات شركات تصنيع الأدوية واللقاحات، تصنّع فيروسات وتنشرها، لتبيع لقاحاتها، وتخلق أسواقاً لتصريف انتاجها، وتميّز بين الأسواق، أيهما قادر على استهلاك نوع معين من اللقاحات، وأيهما لا. وتقوم الشركات بالتهويل عند نشر كل فيروس، لتضمن انتشار لقاحه، وعندما ينخفض إيراد لقاح ما، تنشر الشركات فيروساً جديداً لإعادة تفعيل السوق. فأين اصبحت فيروسات مثل جنون البقر والسارز وانفلونزا الطيور والكورونا؟، حتى انفلونزا الخنازير المعروف علمياً بفيروس N1H1، تراجع الحديث عنه لفترة، وعاد اليوم الى الانتشار، علماً ان الفيروس صنّعته شركة دواء أميركية كانت مهددة بالإنهيار، في مزرعة للخنازير في المكسيك، ثم نقلته الى الإنسان لينتشر. وللمفارقة، فإن السويد والدنمارك وفنلندا رفضت شراء اللقاح، لأنها تعرف حقيقته.
* كيف تنظرون الى حملة مكافحة الفساد، التي تقوم بها وزارة الصحة، وتحديداً في الملف الصحي؟
الخطوة مطلوبة بغض النظر عن واقعها ونتائجها. لكن في الحقيقة، على المسؤولين عنها الغوص الى عمق الأزمة، وهذا متعذر إذا لم يكن القرار بحجم الوفاق الوطني، لأن القطاع الصحي في لبنان يختصر تركيبة النظام بطوائفه ومذاهبه وقواه السياسية. فحماية القطاع تحتاج الى سياسة وطنية واضحة تسير وفق قانون يحاسب الفاسدين، وأولهم بعض المستشفيات التي تقوم بتضخيم الفواتير وبيع أدوية تم استيرادها بحجة البحث العلمي، فضلاً عن تجار يزورون شهادات المنشأ، ويتواطأون مع المصانع في الخارج لتصنيع نسخ دوائية بسعر منافس، على حساب الجودة. وبعض المصانع توافق طالما ان الدواء لن يُباع في بلدها. وأيضاً وفق قانون يحد مِن، ويحاسب، الجمعيات المُسماة خيرية، والتي تحارب القطاع الحكومي، وتقوّي القطاع الخاص، وبشكل اساسي ذلك التابع للأحزاب والطوائف.
وحملة المكافحة لا تتم فقط من خلال مراقبة وزارة الصحة بالطريقة الحاصلة اليوم، فالفساد ينخر الوزارة نفسها. والوزير يقوم بعمله ضمن الحدود المسموح بها، والمغطّاة سياسياً، كي لا يصطدم بفلان أو علان. والخطوة تبقى ناقصة اذا لم يكن هناك مختبر مركزي فاعل، يمكن بناؤه والعمل عليه بإشراف منظمة الصحة العالمية، على الأقل في المراحل الأولى.