بعد أسبوع على إعلان السعودية وقْف مساعداتها العسكرية للبنان، إيذاناً بانطلاق “عاصفة” الإجراءات العقابية على لبنان، في إطار مراجعة الرياض للعلاقات بين البلدين، اتخذت تداعيات هذه الإجراءات المتواصلة سعودياً وخليجياً أبعاداً شديدة الخطورة على الوضع اللبناني، ربما لم تعرفها البلاد إلا في الحقبات القاتمة من حروبها.
والواقع ان الذعر بدأ يتّسع حيال مصير مئات آلاف اللبنانيين العاملين في دول الخليج – غالبيتهم في السعودية – وسط معطيات متناقضة عن إمكان بدء عمليات تضييق او ترحيل او وقف إجازات العمل بطريقة منهجية. ويثير ما يتردد ايضاً على نطاق واسع من سحب الودائع المالية السعودية من مصرف لبنان المركزي ومن المصارف اللبنانية الأخرى، الخشية من انعكاسات نفسية على السوق المالية، بما يُنشئ طلباً على شراء العملات الأجنبية، والضغط تالياً على سعر الليرة اللبنانية سلباً.
ومع أن حجم الودائع السعودية والخليجية في المصارف اللبنانية ليس كبيراً، ولا يؤثر سحبها، نظراً الى تمتُّع الاحتياط النقدي في مصرف لبنان بقوة كافية تمنع اي اهتزاز للاستقرار النقدي، فإن الخشية لا تَسقط من الأثر المعنوي الذي بدأت ترتّبه عاصفة الاجراءات العقابية السعودية والخليجية ضدّ لبنان، والتي لا تبدو في طور التراجع بعد، أقلّه حتى الآن.
وتراهن الاوساط السياسية اللبنانية الحليفة للسعودية على وجود سقف للاجراءات المتخَذة، ولو بلغت حدوداً غير مسبوقة من الحدة، ولكن من دون أوهام واسعة حول إمكان احتواء هذه الأزمة بسرعة، إذ جلّ ما تأمل به الجهات الرسمية والسياسية مع السعودية حالياً، هو محاولة فرْملة اندفاع الاجراءات المتصاعدة في شكل شبه يومي، وإطلاق الرسائل العاجلة في اتجاه الرياض من اجل تبريد غضبها، ريثما تستقبل رئيس الحكومة تمام سلام لوضع الامور في نصابها.
وتضيف الاوساط لـ “الراي” ان “هناك مؤشرات معقولة حيال إمكان استجابة الرياض لتحديد موعد لزيارة يقوم بها سلام مع وفد وزاري”. ومع ذلك فإن الاوساط تعترف “بقتامة الأجواء وغموضها بدليل انه يصعب رسم أي خط بياني لما يمكن ان يمضي عبره الجانب السعودي والدول الخليجية الأخرى حيال لبنان في الأيام المقبلة”. ولعل أكثر ما يقلق هذه الاوساط ان “يكون لبنان وُضع على خط مواجهة إقليمية تُعتبر تمدُّداً للمواجهة السعودية – الايرانية في كل المنطقة، بما لا قدرة له على تحمُّل تبعاتها”، معتبرة ان “المشهد السياسي والاعلامي في لبنان في الأيام الأربعة الماضية يفترض ان يشكل نموذجاً كافياً لحجم التضامن اللبناني الواسع مع السعودية، ورفْض سياسات (حزب الله) التي تَسببت للبنان بإثارة هذه العاصفة”.
وتضيف الاوساط نفسها انه “يمكن البناء على هذا الأمر للمضي قدماً في إقناع السعودية بضرورة الأخذ في الاعتبار ان تصويب الموقف الرسمي والسياسي والإعلامي اتخذ ذروة تعابيره، بما يُعتبر أكبر رد ممكن على الاساءة التي حصلت للمملكة، عبر تخلُّف وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل عن الإجماع العربي والإسلامي في مؤتمريْ القاهرة وجدة”. وفي ظل ذلك سيشكّل المضي في إجراءات عقابية إضافية محاذير خطرة على لبنان، وكذلك على الأهداف الأبعد للسعودية نفسها، حين تبدأ تداعيات هذه الاجراءات تشكّل خطراً على الاستقرار الداخلي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأمنياً، ما يعني ضرورة رسم خط احمر لها في وقت سريع بعدما استنفدت أغراضها تماماً وحققت غالبية ما أريد إيصاله وتحقيقه.
وأعربت مصادر سياسية واسعة الاطلاع عن اعتقادها ان تدخلات دولية وغربية ستبدأ تشقّ طريقها لتبريد الأزمة اللبنانية – الخليجية انطلاقاً من الخشية على الاستقرار اللبناني بفعل الارتباط العضوي للبنان بدول الخليج على مختلف المستويات.
وشخصت الأنظار في بيروت على مساريْن: الأوّل استمرار “المفاجآت” الخليجية والتي كان آخرها إلغاء سفارة دولة الكويت في بيروت حفل الاستقبال الذي كان مقرراً مساء، في مجمع البيال لمناسبة العيد الوطني، وهو ما اعتُبر في سياق المناخ السلبي المستجدّ بين لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي التي دعت رعاياها تباعاً الى مغادرته وعدم السفر اليه، وسط تقارير لم يتم التأكد من صحتها عن إعداد بعض الدول قوائم لترحيل لبنانيين.
وتَزامنتْ خطوة الكويت مع عدم استبعاد السفير السعودي في بيروت ترحيل لبنانيين من الخليج معلناً: “أتمنى ألّا نصل إلى هذه المرحلة وأن يتخذ إجراء من الحكومة اللبنانية يرضي المملكة العربية السعودية وينهي المشكلة”، داعياً الحكومة الى معالجة الاخطاء التي ارتكبتها “جهة معينة في الحكومة” حيال بلاده “بحكمة وشجاعة”، ومعتبراً أن ما قامت به الحكومة “لم يكن كافياً وشافياً عن موقف لبنان في المحافل الدولية تجاه المملكة”، ذلك ان “هذا البلد يرتبط بعلاقة وثيقة وتاريخية مع المملكة وبالتالي كنا نتوقع منه أفضل من ذلك”.
اما المسار الثاني فهو المضي في منْع انهيار الحكومة اللبنانية في ظل تصاعُد المخاوف على الاستقرار، الأمر الذي تجلى في الجلسة التي عقدها مجلس الوزراء، وحضرت فيها الأزمة المستجدة مع دول الخليج والخطوات الواجبة والممكنة للخروج منها، وسط توقف دوائر سياسية عند المواقف التي أطلقها سلام في بداية الجلسة، اذ دعا الوزراء الى “مراعاة حساسية ودقة المرحلة في مواقفهم”، متمنياً “ان يأخذوا في الاعتبار التماسك الذي حصل” ومؤكداً “بذل كل الجهود لحلحلة الأزمة الحاصلة”.