كتب الان سركيس في صحيفة “الجمهورية”:
في وقت يسارع لبنان الى تطويق إجراءات السعوديّة ودول الخليج، وحصر تردّداتها وحماية مصالح اللبنانيين الموجودين في الخليج، طُرحت على بساط البحث هويّة لبنان الذي هو في الأساس جسر عبور بين الشرق والغرب.مَن يراقب تطوّرَ النزاع يعلم أنّ سبب أزمات لبنان السياسيّة والأمنية والإقتصاديّة والمعيشيّة عدم القدرة على حسم إنتمائه، وفي المقابل، غياب الخطوات التصحيحيّة أو القيام بمصارحة داخلية يكشف فيها كلّ مكوّن عمّا يدور في خاطره.
فعندما وُضع ميثاق 1943 تناسى المسيحيون جزءاً من قوميتهم غير العربيّة وطلب الحماية من فرنسا والغرب وتخلّى المسلمون عن المطالبة بالوحدة مع سوريا والبلدان العربيّة والإسلاميّة، وتمّ تخريج صيغة «لبنان ذو وجه عربي».
ولم تعمّر هذه القاعدة طويلاً إذ إنهارت أثناء ثورة 1958، قبل العودة الى قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» من ثمّ تعرّضت لضربة إضافيّة مع بداية الحرب وإنتهاءً بتوقيع «إتفاق الطائف» الذي كرّس تأكيد لبنان «عربيّ الانتماء والهوية» و»وطناً نهائياً لجميع أبنائه».
تغيّر وجهُ النزاع، فبعدما كان بين شرقٍ وغرب، أصبح الآن نزاعاً عربياً- فارسيّاً، وبالطبع إنعكس على سياسة لبنان الخارجية، ومع مقارنة النزاع السابق مع الحالي، يبدو أنّ ما يجعله متجذّراً أكثر هو العامل الديني، إذ إنّ إرتباط السنّة بالعالم العربي هو بسبب الإنتماء الغالب للمكوّن السنّي في المنطقة.
ومن جهة ثانية فإنّ ارتباط المسيحيين بفرنسا والغرب هو بسبب العامل الديني والثقافي وتجذّره عبر الإرساليات الأجنبية. أما ارتباط الشيعة بإيران فقدّ تجذّر بعد إنتصار الثورة الإسلاميّة، حيث أصبحت طهران الرافعة لشيعة لبنان والمنطقة.
كلُّ هذه الأمور تطرح مجدّداً طريقَ تنظيم الخلاف اللبناني الداخلي، والذي بالقدر الذي يقترب من العقائدي يبتعد منه نحو المصالح السياسيّة والمنفعة الضيقة، خصوصاً عند وصول المسألة الى «تقاسم الجبنة».
ومن هنا تطرح بعض الأوساط الأسئلة الآتية: «هل يمكن مواجهة المدّ الإيراني في لبنان والذي يأخذ طابعاً دينياً وعسكرياً ومالياً بإيقاظ القوميّة العربية التي ضعفت بعد هزيمة الرئيس جمال عبد الناصر في حرب 1967 وضياع قضية فلسطين بعدها؟ ولماذا إعادة طرح الاستفتاء الشعبي على أمرٍ مُسلَّم به، ما قد يستنفر قومياتٍ أخرى يتكوّن منها المجتمع اللبناني في زمن يحاول كلُّ مكوّن في الشرق الحفاظَ على هويّته وثقافته ووجوده؟»
يرى البعضُ أنه كان في الإمكان مواجهة تخريب علاقات لبنان بدول الجوار، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والخليج، من خلال التركيز على المصلحة اللبنانية التي تربطها بالخليج العربي علاقات وطيدة وعدم العودة إلى شعاراتٍ قديمة تستفزّ البعض، إذ إنّ الشيعي والمسيحي والدرزي والسنّي وبقية المكوّنات إستنفروا كلهم عندما إقترب الخطر من مصالحهم وهدّد لقمة عيشهم، وفي حال استمرّ بعض الأصوات في التغريد خارج سرب مصلحة بلده فإنّ اللوبي اللبناني المؤثر سينتفض بالتأكيد عليها.
تؤكّد الأوساط أنّ الإعترافَ بأنّ للبنان مصالح مع دول الخليج ليس إنهزاماً أو ضعفاً أو إستسلاماً لأحد، لأنّ كلَّ الدول تجمعها مصالح مع دول أخرى، ولو لم يكن لإيران مصلحة مع الغرب والولايات المتحدة الأميركية لما صالحتهما، على رغم أنّ الثورة الإسلامية الإيرانية بنت عقيدتها على «شيطنة» واشنطن، لكن عندما أيقنت طهران أنه لا يمكنها الإستمرار وسط الحصار الإقتصادي سارعت الى إبرام اتفاقٍ مع ألدّ أعدائها.
قد يكون حلّ مشكلة العلاقات اللبنانية – الخليجية صعباً بعد كلّ التطورات، وفي المقابل قد يكون سهلاً، لكنّ المشكلة الأساس تكمن في عدم وجود سلطة موحّدة تستطيع مخاطبة الخارج أو التفاوض، تلك السلطة التي استمرّت أشهراً ضائعة في إختيار وسيط للتفاوض مع خاطفي العسكريين في عرسال، فهل ستستطيع إصلاحَ ما أفسده البعض؟
فيما الخطورة الأكبر من الملف الإقتصادي تبقى في ضرب سمعة اللبناني، بعدما عمل سنواتٍ لبنائها، وكان أوّل مَن ساهم في نهضة الخليج وكتب وأنشد للمدن العربية من مكة إلى الاسكندرية مروراً ببغداد والشام بكلماتٍ لم يبتكرها شعراءُ وفنانو تلك المدن.