كتبت لينا فخر الدين في صحيفة “السفير”:
كانت صورتا الشهيدَين علي السيّد وعباس مدلج بعد ذبحهما قاسيتين. من المؤكّد أن تنظيم “داعش” تقصّد إظهار الجسد الممدّد أرضاً ومشاهد الدّماء النازفة على رأس العسكريين بغية بثّ الرعب وإظهار فائض القوّة، بالإضافة إلى المسّ بالمؤسسة العسكريّة التي عادت وأوقفت معظم من كان له علاقة بعمليتَي الذبح.. ولو بعد حين.
ومع ذلك، فإنّ المشهد الذي حصل خلف الكاميرا كان أقسى بكثير، ولا يمكن سرد كلّ تفاصيله الوحشيّة التي رواها السفاحان بلال وعمر ميقاتي لدى توقيفهما وهما يحاولان العودة من القلمون للدخول إلى الرقّة عبر لبنان ثمّ درعا بسبب المشاكل التي حصلت بين قيادات “داعش” آنذاك.
يتفوّق “داعش” على نفسه في كلّ مرة باعتماده أساليب الإجرام والقتل. كلمة “اقتله” تكاد تكون يوميّة بالنسبة لعناصره الذين اعتادوا تنفيذ الحكم كما لو أنّهم يأكلون ويشربون.
بهذه السّهولة، أمَر “والي دمشق” أبو أيوب العراقي أمير “داعش” في القلمون أبو عبد السلام الشامي اختيار عسكريّ من الطائفة السنيّة لذبحه بهدف الإسراع في المفاوضات وتلبية مطالب التنظيم. فطلب “أبو عبد السلام” من بلال العتر (اللبناني الذي كان مسؤولاً عن التحقيق مع العسكريين وتعذيبهم إثر خطفهم) أن ينتقي واحداً.. فوقع الخيار على علي السيّد، وفق ما روى “الميقاتيان”.
وبسرعة البرق، تمّ نقل السيّد من مقرّ احتجاز العسكريين إلى منطقة أخرى ضمن الرهوة تبعد حوالي 3 كيلومترات عن المركز، حيث حضر إلى جانب أبو عبد السلام وبلال ميقاتي، العتر وعبد الرحمن بازرباشي (كان يصوّر عمليّة الذبح) وسوريان ملقبان بـ “أبو الليث” و “أبو علي زلفة” و “أبو رشيد” و “أبو القاسم”.
دقّ بلال ميقاتي على صدره، طالباً أن يتولى ذبح العسكريّ الذي “أعتبره كافراً كونه من عداد الجيش”، فكان له ما إراد حينما وافق “أبو عبد السلام” على الأمر.
لم يسنّ الإرهابي الصغير سكينه جيداً، بل كانت علامات الفرح على محياه حينما تبلغ السيّد رسمياً بأنّه سوف يتمّ ذبحه. صدم العسكريّ الذي طلب العودة عن هذا الأمر: “فأنا لديّ أولاد”.
لم يبالِ عناصر “داعش” لهذا المطلب، فحاول العسكريّ أن يغيّر سياسته لعلّه ينجح، وصار يقنع جلاديه بأنّه سيتوب ويستغفر الله عن كلّ الذنوب التي ارتكبها. ولكنّ الأمر أيضاً لم يفلح في تغيير القرار، ليكون الردّ صادماً عندما نطق “أبو عبد السلام”، مشيراً إلى أنّه “في حال تبتَ فعلاً فسوف يكون ذبحكَ كفّارة عما فعلته في حياتك”!.
وأخيراً، علم السيّد أنّ لا عودة عن تنفيذ حكم الإعدام فيه. ولذلك، طلب أنّ يصلي ركعتين قبل موته، ليكون هذا الأمر الوحيد الذي وافق عليه “أبو عبد السلام”، إلا أنّ “العسكري المصدوم لم يستطع أن يصلي لشدة توتّره وارتجافه”، وفق ما يقول بلال.
لم يترك السّفاحون للشاب فرصة لأن يكمل صلاته حتى، إذ قاموا بلفّ شال حول عينيه، وأحضروا السكين التي تسلّمها بلال وبدأ بحزّ رقبة العسكري لوقتٍ طويل. تماماً كما لم يكتفوا بعمليّة القتل، بل قام العتر وبازرباشي بإطلاق النّار على جثة الشهيد بعد وفاته!
وأكثر من ذلك، ترك عناصر التنظيم الإرهابي الجثة في مكانها وعادوا أدراجهم ليعطي “الأمير” أمره بنشر صورة الشهيد على “تويتر” وتحديداً على صفحة عبد الرحمن بازرباشي التي تحمل اسم “أبو مصعب حفيد البغدادي”، فيما لم يصدر الأمر بدفن السيّد الذي تُرك مكانه إلى اليوم التالي، حينما تمّ تكليف “أبو دجانة اللبناني” (كان من عداد كتائب عبدالله عزام قبل أن يبايع داعش) مع مجموعة بعمليّة الدفن التي حصلت في الرهوة.
ثم قام “أبو دجانة” مع مجموعة من عناصر “داعش” (بينهم عمر ميقاتي) بنبش الجثّة، عندما صدر لاحقاً أمر تسليمها للصليب الأحمر.
“غلطة” قتل مدلج
وإذا كانت عمليّة انتقاء السيّد مقصودة، فإنّه يمكن القول إنّ الشهيد عباس مدلج ذهب بـ”الغلط”، وكان ضحيّة الأهواء الشخصيّة داخل التنظيم الإرهابي.
كان من المفترض أن يكون العسكري من الطائفة الشيعيّة، بحسب ما طلب “أبو أيوب” من “أبو عبد السلام”، مصراً على ألا يكون سنياً “لأنّ العسكريّ الشيعي يمكن الاستفادة منه خلال المفاوضات ويشكّل ورقة ضغط في الملفّات مع لبنان، لكن العسكري السنيّ لا أحد يسأل عنه”.
ومع ذلك، طلب أبو عبد السلام من العتر اختيار واحد من العسكريين الشيعة. هدفه من ذلك “إحداث فتنة سنيّة ـ شيعيّة في لبنان، خصوصاً أنّه قال لنا بعد ذبح السيّد أنّه ينوي ذبح عسكري شيعي”، مشيراً إلى أنّه “في حال علّق أبو أيوب على الأمر بعد تنفيذه، يتمّ إبلاغه أنّ خطأ حصل عن غير قصد”.
وكما في عمليّة الذبح الأولى، اقتيد مدلج إلى المكان نفسه حيث ذبح فيه السيّد وفي حضور معظم الأشخاص الذين حضروا عمليّة الذبح الأولى.. مع إضافة واحد هو عمر ميقاتي.
هذه المرة، رفض أبو عبد السلام “عرض” عمر بأن يقوم بذبح العسكري بنفسه، بل وعده بأن يقوم بذلك عند صدور أمر إعدام العسكري التالي.
وعليه، كان أبو عبد السلام قد أعطى وعده لـ “أبو الورد” بتنفيذ العمليّة، فيما كلّف عمر بمهمّة تصويرها إلى جانب “حفيد البغدادي”.
حينها، أبلغ مدلج بنيّة القتل، “فبدأ يتمتم بصوتٍ منخفض وكأنّه يستغفر ربه ويستنجد به، ولم يطلب منّا أن نعفو عنه”، قبل أن يتقدّم منه “أبو الورد” ويذبحه من دون أن يتمّ دفنه في اليوم التالي، بل تركت جثته في مكانها لأيّامٍ عديدة.
ويؤكّد بلال أنّه “بعد ذبح مدلج أشيع من قبلنا (صدر بيان رسميّ عن داعش) أنّه تمّ ذبحه بسبب محاولة الفرار، ولكنّ هذا الأمر غير صحيح، وإنّما تمّ الحديث عنه حتى لا تؤثّر عمليّة ذبحه في المفاوضات”.
بهذه البساطة، قتل الإرهابيون عسكريين من الجيش اللبناني من دون أن ينفع معهم لا استغفارٍ ولا حتى طلب الشفاعة.