قرأتُ أخيراً إشارة في الصحف اللبنانية الى أن تقدير متوسط معدل النمو في لبنان للعام الماضي يعتمد على أرقام نمو قطاع العقارات. النمو العقاري، أي النشاط في مجال أعمال البناء، يعدّ جزءاً من مجمل الناتج المحلي/ GROSS DOMESTIC PRODUCT – GDP، والذي يعني: القيمة السوقية للسلع المنتجة والخدمات المنجزة والضرائب داخل دولة، أي تقويم أساسه الجغرافيا.
الرقم الكبير الصغير الآخر هو إجمالي أو مجمل الناتج القومي/ GROSS NATIONAL PRODUCT – GNP، يعني الأمر ذاته، لكنه يضم أيضاً العائدات في خارج الدولة. فعلى سبيل المثال، إنتاج شركة دايملر من سيارات مرسيدس في الصين، يعدّ جزءاً من الناتج القومي. التقويم هنا أساسه الملكية.
لكن ما معنى اعتماد مجمل الناتج المحلي مرجعاً لتقويم صحة اقتصاد دولة ما أو مرضه؟!
الجذور
الكاتب، وهو أستاذ تاريخ الاقتصاد وزميل في معهد كنن للأخلاقيات في جامعة ديوك الأميركية، يقول في مؤلفه المهم، المكتوب بلغة مبسطة، لكن علمية، موجهة ليس فقط لأهل الاختصاص في الاقتصاد ودارسيه، بل أيضاً لكل معنيّ بنوعية الحياة في المعمورة: إجمالي الناتج المحلي يعني النمو جيد، وليس أي أمر آخر، وهذا موضوعه من منظور تاريخي نقدي معني بتبعات اعتماد إجمالي الناتج المحلي مقياساً وحيداً لتقويم عافية اقتصادات الدول من غيابها.
خصص درك فلبسن القسم الأول من مؤلفه للحديث في تاريخ استخدام هذا الرقم مؤشراً اقتصادياً، ويذكّرنا بأنه حديث ونشأ إبان الكساد العالمي العظيم (THE GREAT DEPRESSION)، الذي اندلع عام 1929 في الولايات المتحدة بداية، وانتشر إلى بقية الدول الرأسمالية، واستمر حتى عام 1939، أي في سنة اندلاع الحرب العالمية الثانية عندما أعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا. وحتى ندرك أسباب استحداث هذا المؤشر دليلاً على صحة اقتصاد ما، والضغوط التي نتجت من الكساد، من المفيد الإشارة إلى بعض الأرقام.
الناتج القومي هبط بالمعدلات الآتية في: الولايات المتحدة 46%، المملكة المتحدة 23%، فرنسا 24%، ألمانيا 41%. أما معدل البطالة فارتفع في الولايات المتحدة 607%، المملكة المتحدة 129%، فرنسا 214% وأخيراً ألمانيا 232%. الجدير بالذكر أن اقتصاد الاتحاد السوفياتي المستقل عن السوق الرأسمالية العالمية لم يتأثر بالكساد، بل شهد فترة نموّ صناعي غير مسبوقة.
الضغط الكبير لذلك الكساد المريع في الدول الرأسمالية دفع الإدارة الأميركية إلى البحث عن أسباب ذلك، كائناً ما كان. الاقتصاديون كانوا في حيرة من أمرهم، ولم يتفقوا إلى يومنا هذا على مسببات ذلك الكساد العظيم، فلجأوا إلى مؤشر مجمل الانتاج المحلي الذي طوّره الأميركي من أصل روسي/أوكراني هو سيمُن كوزنتس. هذا المؤشر، موضوع الكتاب، أسس بالتالي للنظرة الاقتصادية الحديثة المنطلقة من المنظور الكمي، أي الاقتصادي الكمي.
جذور هذا الرقم الكبير الصغير، تعود، وفق الكاتب، إلى القرن السادس عشر، وابتدع لحماية كبار ملاك الأراضي من الضرائب المرتفعة. لكن الاستخدام الأحدث جاء في تقرير أعدّه كوزنتس عام 1934 للكونغرس الأميركي، بناءً على طلب الأخير. فالانهيار الذي ضرب اقتصادات الدول الصناعية تطلّب استخدام مرجع لمعرفة أسباب الكساد، وبالتالي وضع ما رأى اقتصاديو الرأسمالية من علاج.
عودة الكساد، والركود أيضاً، مرات ومرات منذ ذلك الحين، ولنتذكر ركود العقد الماضي وانهيار أسعار العقارات المصطنعة، تظهر مرة بعد أخرى عقم الأدوية المستعملة في العلاج المفترض ــ لكن هذا رأينا وليس رأي الكاتب.
مثال مبسط
دِرك فلبسن يؤكد أن ثمة جوانب أخرى لمسألة اعتماد الكم فقط مرجعاً لتقويم صحة اقتصاد ما، وهنا تكمن رسالة الكتاب. فالنمو، برأي الكاتب، لا يخلق حياة أفضل للبشر، ولذا نراه يتساءل: ما أسباب شكوى البشر المستمرة من تدهور مستوى حيواتهم ونوعيتها رغم النمو المستمر؟!
لتسهيل الأمر على القارئ، استحضر الكاتب مثالاً مبسطاً لكنه عميق المغزى وقال: تخيّل شخصاً مدخناً ومدمناً على الأدوية، تورّط في صدم سيارته بحافلة مدرسية تقل تلاميذ، لأنه كان يرسل لزبائنه رسائل قصيرة من جواله بينما كان متوجهاً للقاء محاميه لإنجاز معاملات طلاقه. لنفترض أنه أصيب بجروح ليس غير. هنا يبدأ المشوار الاقتصادي. فهذا الشخص عليه تصليح سيارته وتكليف محام بمهمات إضافية، إضافة إلى دفع تكاليف علاجه وكذلك مكافآت المحامي الجديد. في الوقت نفسه فإنه يستمر في تدمير صحته عبر التدخين والاستعانة بالأدوية المدمن عليها.
هذا الشخص، من منظور عادي، ألحق الأذى بنفسه وكذلك بغيره من البشر. لكن من منظور اقتصادي كمّي بحت، يتلخص في النظر إلى الأمر من زاوية الاستهلاك، فإنه قدم خدمة كبيرة للاقتصاد المحلي. فقيامه بدفع كافة المصاريف الآنفة الذكر، قد ساهم في نمو فروع اقتصادية عديدة!
انطلاقاً من المنظور اللااقتصادي، يشدد الكاتب على أن النمو المنفلت لا يعني أمراً إيجابياً. النمو لا يعكس نوعية الحياة. وهذا يعيدنا إلى مسألة جوهر النمو. فهل المنظور الاقتصادي المجرد كاف لمعرفة ما ينتظرنا في المستقبل؟ فنمو الانتاج قد يعني استخدام آلات حديثة تؤدي إلى فقدان عمال وموظفين أمكنة عملهم. الكاتب فصّل ذلك، وفق النظريات الاقتصادية الرأسمالية، في بعض فصول المؤلف. ورأى، بالتالي، أن مجمل الانتاج المحلي يعني وصف الأزمة، ووجب عدم المضي في قبول تحوله إلى وصفة علاجية!
يرى الكاتب، انطلاقاً من مختلف الحقائق التي أوردها عبر فصول المؤلف، أن الأساس في النمو ليس الكم. فاستخدام مجمل الانتاج المحلي مرجعاً لصحة اقتصاد ما يعني أموراً سلبية كثيرة تؤثر في حيواتنا ومستقبل البشرية جمعاء، ومعها مستقبل الكرة الأرضية. فالنمو قاد إلى استنزاف الموارد الطبيعية والاحتباس الحراري والتسوس الاجتماعي واتساع الهوة بين قلة مالكة وأكثرية فقيرة وما إلى ذلك من الأمراض.
قوى سحرية
يعود الكاتب دوماً إلى التاريخ لتوضيح منظوره النقدي والاستفادة من تجارب سابقة ثبتت صحتها. فعلى سبيل المثال، نقرأ في المؤلف أن فلاحي بريطانيا كانوا يقدّرون قيمة قطعة أرض ما ليس بحجمها أو بثمنها، بل بعدد الأفراد الذين بإمكانها إعالتهم. أما بعض القبائل الهندية (أي من الهنود الحمر) فإنها كانت تقدّر قيمة أعمالهم ونشاطهم ليس بالثروة التي تنتجها آنياً، بل بتأثير تلك الأعمال في حيوات الجيل السابع بعدهم. في المقابل، سكان بعض جزر المحيط الهادي التي كانت تحوي غابات كثيفة، عملوا على قطعها واستخدامها في كافة مجالات الحياة. لم تنقض فترة طويلة، قال الكتاب، قبل أن تتحول جزرهم إلى صحارى، فمات بعض أهلها جوعاً، وجزء آخر تحول إلى أكلة لحوم البشر، إلى أن قضوا بدورهم. نمو اقتصادهم قادهم إلى اقتطاع مستقبلهم، فبادوا.
مع السلبيات الآنفة الذكر، يبقى مجمل الانتاج المحلي المرجع، في السياسة وفي التعليم وفي تقدير دور هذه أو تلك من الشركات أو المؤسسات في زيادة النمو. لكن المطلوب، يؤكد الكاتب، معرفة أولاً نوعية المنتج والخدمات وليس حجمها.
يقرّ الكاتب بأنه لم يعر مسألة حقيقة أن الدول “النامية” هي التي تعاني أكثر من غيرها بسبب ما يفرضه الالتزام بهذا الرقم الكبير الصغير مؤشراً للنمو من تقشف صارم، لكنه أوصى بضرورة قيام أهل الاختصاص بالبحث المعمق في تلك التأثيرات المدمرة في الدول والشعوب “الفقيرة”.
إضافة إلى ذلك، يشدد الكاتب على ضرورة قيام أهل الاختصاص ببحث العلاقة بين نجاح أو فشل سياسات التقشف الصارمة المفروضة على الدول من جهة، ومن جهة أخرى مدى تأثير النجاح المرتقب لتلك السياسات في النمو.
مشكلة هذا الرقم الكبير الصغير، وفق الكاتب دوماً، امتلاكه قوة نظام بني على أفكار لم تعد مرئية. أما الهدف أو الأهداف فليست موضوع نقاش، سواء بين الاقتصاديين أو في المجال العام. لذا، ثمة حاجة ماسة للنظر في القاع الذي ستصل البشرية إليه في حال استمرار الالتزام به من دون وضع أهداف إضافية تعنى بوضعنا ومستقبل المعمورة.
يختم الكاتب مؤلفه بالقول: كل قرن يشهد ظهور مجموعة من السحرة، أشخاص أو مجموعة من الأشخاص، على جانب كبير من الدهاء، يدّعون امتلاكهم قوى سحرية غيبية لشرح المستقبل، وتوقعه، وهذه القوى يمكن أن توظف من أجل عمل الخير أو ارتكاب الشرور. علماء الاقتصاد، هم من ارتدوا، في العادة، هذه العباءة السحرية الغيبية منذ الكساد العظيم.
* العنوان الاصلي للكتاب
DIRK PHILIPSEN, THE LITTLE BIG NUMBER – HOW GDP CAME TO RULE THE WORD AND WHAT TO DO ABOUT IT. PRINCETON UNIVERSITY PRESS, PRINCETON 2015. 410 PAGES.