محمد الجنون
تُلازم أبناء إقليم الخروب حكاية من المعاناة اليومية مع التلوث. معامل ملوّثة للبيئة تحاصر المنطقة؛ معمل الكهرباء في الجية يطلق عنان سمومه من دون أي التزام بشروط بيئية، أمّا معمل ترابة سبلين والكسارات ومقالع الحجارة ومعامل الزفت فقد جعلت منها منطقة صناعية جرداء، من دون أي مراعاة للوجود السكاني والعمراني.
ما فرضته هذه المعامل من واقع كان كفيلاً بانتفاضة أهالي المنطقة في وجهها، ومطالبتهم بأدنى حقوق العيش في بيئة نظيفة، والمتمثلة أقله في وجود فلاتر لهذه المعامل للتخفيف من ضررها القائم. أواخر الشهر الفائت، أكّد المدير العام لمعمل ترابة سبلين، المهندس طلعت اللحام، لـ”الأخبار”، أنّ “فلتر الخط الثاني في معمل ترابة سبلين سيكون جاهزاً للخدمة ابتداءً من 10 شباط 2016 “. مرّت المهلة المحددة ولم يُشغّل الفلتر الذي ما زال قيد التركيب، “على أنّ يُعلن عن تشغيله قريباً في احتفال لأبناء المنطقة”، وفق ما يروي أحد العاملين في المعمل. هذا ليس الوعد الأول الذي يخلفه أصحاب المعمل للأهالي، فوعود تركيب الفلتر أُطلقت منذ عام 2011 ولا تزال مستمرة.
وعد عام 2011 ما زال مؤجلاً
لم تهدأ مدخنة الخط الثاني في المعمل عن إطلاق غبارها، رغم المطالب العديدة والمتكررة من أهالي وبلديات المنطقة بوضع فلاتر لتخفيف الضرر الذي تحمله انبعاثات المعمل، الذي تملك شركة “سيسيل” البرتغالية الحصة الأكبر منه، بالشراكة مع النائب وليد جنبلاط وشركات مساهمة تابعة لعائلة الحريري.
مع حلول شباط 2011، تحرك أهالي المنطقة باتجاه المعمل، وطالبوا بتركيب فلتر، متلقّين وعوداً من جنبلاط (رئيس مجلس إدارة معمل ترابة سبلين) بإيجاد حل بيئي مع نهاية العام نفسه. لم ينفّذ الوعد ضمن فترة التسعة أشهر التي حددها المعنيون آنذاك لحل المشكلة، فبقيت المشاكل على حالها، لا بل تفاقمت أكثر.
مع بداية عام 2015، وتحديداً بعد إقفال مطمر الناعمة في 17/1/2015، أكد جنبلاط في تصريح له من كليمنصو أن فلتر المعمل سيكون قيد العمل ابتداءً من تشرين الثاني 2015. بقيت الأنظار متجهة نحو المعمل، إلا أن عملية تركيب الفلتر لم تبدأ سوى مع نهاية العام ولا تزال مستمرة الى اليوم.
وعدٌ جديد قدمه اللحام إلى الأهالي: الفلتر سيدخل الخدمة في 10 شباط. لكن، مجدداً، النتيجة أتت مخيّبة، إذ مرّ شهر شباط بأكمله من دون أن يُشغّل الفلتر. يشير اللحام إلى “وجود انبعاثات معينة لأي صناعة، أما بالنسبة إلى مصنع سبلين، فإن الانبعاثات من الفلتر القديم كانت ضمن المقاييس والمعايير المطلوبة محلياً ودولياً، إلا أن المشكلة تكمن في غبار ناتج من إحدى دواخين المصنع من حينٍ إلى آخر، من جراء عدم استقرار التيار الكهربائي، حيث إن الفلتر السابق يعمل على الشفط المغناطيسي، أما الفلتر الجديد فهو بتقنية عالية تعتمد على الشفط بالأكياس ويساعد على الحد من هذه الانبعاثات”.
في ما خصّ التلوث، يلفت اللحام إلى أن” الفلتر الجديد سيساعد على الحد من انبعاث الغبار الذي كان يحصل من حين إلى آخر سابقاً، والناتج من عدم استقرار التيار الكهربائي، وأن أي انبعاثات أخرى هي دائماً ضمن المقاييس والمعايير المطلوبة”.
يشرح اللحام أن “مصنع سبلين يحتوي على 64 فلتر موزعة على جميع أقسامه، تعتمد جميعها على الشفط بالأكياس لتنقية الهواء، باستثناء فلترين يعتمدان الشفط المغناطيسي، وذلك بسبب الحرارة العالية للمواد التي تدخل إلى هذين الفلترين. مع تقدم التكنولوجيا، أصبح بالإمكان استعمال فلاتر من الأكياس تتحمل حرارة مرتفعة، وقد قامت شركة سبلين بتبديل الفلتر الأساسي على الخط الأول في بداية عام 2013، كذلك عمدت إلى تبديل المبرد الحراري. وقد بلغت كلفة المشروع آنذاك حوالى 15 مليون دولار، إضافة إلى توقّف خط الإنتاج ما يزيد على 12 أسبوعاً. أمّا الفلتر الأساسي في الخط الثاني الذي يعمل على الأكياس، والذي يُركّب حالياً، فسيكون جاهزا بتكلفة تتجاوز 6 ملايين دولار، إضافة إلى الخسائر الناجمة عن توقّف خط الإنتاج”.
الفلتر يحل جزءاً من مشكلة أكبر
يصف أهالي المنطقة المعمل بأنه “قاتل”. يقولون إنّ “أهالي برجا الذين وقفوا في وجه مشروع النفايات، لن يرضوا ببقاء أيّ معمل من المعامل المحاذية لهم بدون فلاتر”.
تقول نهى التي تسكن على مسافة قريبة من المعمل، “إن خطوة تركيب الفلتر جيدة، وكان يجب أن تنفذ منذ زمن، إذ يساهم ذلك في تخفيف التلوث الناجم عن المعمل، والحد من الأمراض التي تسببها ملوثاته”.
أما فرح، “جارة المعمل”، فتشير إلى أن “الناس يتحملون جزءاً من المسؤولية؛ فالمعامل الصناعية يجب أن تكون بعيدة عن الناس. لكن في منطقتنا، المعمل في مكانه والناس اقتربت منه… ومع ذلك، فإن معملاً ينتج إسمنتاً بدون فلتر ينقّي الانبعاثات التي يطلقها، يعتبر من المعامل الخطرة، وتركه بدون فلتر كل هذه الفترة يعدّ جريمة بحق أهالي المنطقة”.
لكنّ أحمد يرى أن خطوة تركيب الفلتر ستحل جزءاً من المشكلة فقط، إذ “مهما كانت الفلاتر فعالة، تبقى معامل الإسمنت من أكثر المعامل تلويثاً للبيئة في كل دول العالم. نحن لا نطالب بإقفال المعمل، لأنه مورد رزق لعائلات كثيرة، ولكننا كأهالي نطالب بتخفيف الضرر عنا”.
المخاطر
من جهته، يؤكد المهندس جمال سعد أن “التلوث الناتج من مصنع ترابة سبلين له تأثيرات سلبية، لا تقتصر على صحة البشر من أمراض صدرية وسرطان، بل تتعدى ذلك لتشمل الهواء والمياه الجوفية والثروة الحرجية والحيوانية. وهناك تلوّث سمعي ناتج من ضجيجه، وتلوّث بصري يتجلى في إزالة بعض الهضاب المجاورة”.
ويضيف: “أما بالنسبة إلى المتضررين، فهم كل المخلوقات الحية الواقعة حول هذا المصنع بقطر لا يقل عن خمسة وعشرين كيلومتراً، أي ما يعادل ألفي كيلومتر مربع، تعادل خُمس مساحة لبنان، تقع في وسط الساحل الشرقي للبحر المتوسط”.
يتابع سعد أن المسؤولية الأولى “تقع على عاتق وزارة البيئة التي لا يعفيها تخاذلها لعشرات السنين من مسؤولياتها وواجباتها تجاه المواطن. ويكون ذلك من خلال استقدام شركة مؤهلة لها خبرة عالية في مجال دراسة الأثر البيئي الناتج من المصنع، وكيفية معالجة أضراره، إلى جانب دراسة جميع تأثيراته على الإنسان والماء والتربة والهواء والحيوان والثروة الحرجية، كذلك أثره الكبير على التيار الكهربائي، حيث يستحوذ المعمل على معدل تغذية يوازي معدل التغذية الذي يحصل عليه إقليم الخروب، ما يؤدي إلى أزمة كهرباء نعيشها في منطقتنا”.
الفلتر الجديد
يقول الخبير في كيمياء السموم الدكتور ناجي قديح، “إن الفلتر القديم electrostatic precipitator يتأثر بالكهرباء غير المستقرة، وحين يتوقف الفلتر عن العمل، يخرج الغبار عبر مدخنة المعمل. لكن في حال استقرار الكهرباء، فإن هذا الفلتر لديه قدرة عالية على التقاط الغبار والجزيئات الصغيرة”.
أما بالنسبة إلى الفلتر الجديد، فيؤكد قديح أن “الفلتر الجديد Bag filter هو فعال في ظروف عدم استقرارالكهرباء، ولديه فاعلية عالية في تخفيف الانبعاثات ذات التأثير السيّئ على المنطقة”.
على صعيد صيانة الفلتر الجديد، يشير إلى أنه “يحتاج دائماً إلى صيانة، لناحية تغيير الأكياس التي تختزن الغبار، ليعاد استعماله في عملية الإنتاج مرة أخرى. وتكمن قدرة الفلتر على تخزين الغبار في التشغيل المنتظم والصيانة الدائمة من خلال الاعتناء بالأكياس ومساماتها التي تلتقط الجزيئات الصغيرة، وضرورة أن تكون الأكياس كافية لضمان نجاح العملية”.