Site icon IMLebanon

نهضة لبنان رهن بإحياء الطبقة الوسطى

سمير صالح

كثرت المواقف التي تتخذها مكونات المجتمع اللبناني، سواء عبر إثارة مسألة المشاكل الحياتية من أزمة نفايات ومياه وتصحيح لقانون الإيجارات والكهرباء، وصولاً إلى مكافحة الفساد على كل المستويات – أولها لدى الطبقة الحاكمة، والغريب أن البعض اكتشف أخيراً أن هذه الأخيرة هي كناية عن «أوليغارشيا» (حكم عائلات أو طبقات) – والتهرب الضريبي من جانب الكبار في هذه الدولة والنافذين من أصحاب المهن الحرة.

 

وبرزت تحذيرات لاقتصاديين لبنانيين من أخطار زيادة الدين العام وخدمته التي تتجاوز ناتج الدخل القومي، وارتفاع معدلات الفقر – تجاوزت نسبة الذين يعيشون تحت خطها 30 في المئة منذ سنتين – والبطالة المتسارعة، ودخول غالبية مؤشرات الاقتصاد الكلي الخطوط الحمر، إضافة إلى تحمّل البلاد أعباء استضافة أكثر من مليون لاجئ سوري على أراضيها، ذلك إضافة إلى عدد آخر من المشاكل التي تهدد بنية المجتمع، وأهمّها تدنّي القوة الشرائية وهجرة الشباب.

 

هذه العوامل كلها ساهمت وتساهم ليس فقط في إفقار لبنان، لكن أيضاً في تقريب اقتصاده أكثر فأكثر من حافة الهاوية. والمكابرة التي يضطلع بها عدد من المسؤولين الذين يربطون كل شيء بانتخاب رئيس الجمهورية أو تعديل القوانين أو الدستور، وتلك التي يتباهى بها المصرفيون حيال متانة الاقتصاد وقدرته على مواجهة التحديات، لن تنفع بشيء في حال تعرّض لبنان لهزة أمنية كبيرة أو فُرض عليه تحمُّل تبعات تغيرات جيوسياسية في محيطه.

 

لم يعد هنالك أي صمام أمان أو منطقة عازلة تمنع حدوث الأسوأ. فبانقراض الطبقة الوسطى التي كانت تحتل المرتبة الأولى في العالم العربي، وتؤدي دورها في النهوض الاقتصادي والاجتماعي، بات اقتصاد لبنان مكشوفاً. ولم يرَ المواطن يوماً مسؤولاً سياسياً أو أحداً من أصحاب العمل الكبار أو حتى النقابيين يدق ناقوس الخطر منذ أكثر من 30 سنة حيال تبخّر هذه الطبقة الوسطى. هذه الأخيرة التي وصلت أول الحرب اللبنانية في 1976، وفق تقارير البنك الدولي، إلى أكثر من 72 في المئة قبل أن تتراجع اليوم إلى أقل من 20 في المئة. وتحوّل الفارق إلى طبقة فقيرة.

 

الأمر الذي يوازي بخطورته تراجع هذه الطبقة على النحو المخيف، هو الغياب المتزايد بحدة للمساواة، الأمر الذي أصبح معضلة مركزية، ففي الوقت الذي تدق حركة «احتلوا وول ستريت» ناقوس الخطر وتضع نفسها في قلب الحدث السياسي في الولايات المتحدة خلال حملات الترشيحات للانتخابات الرئاسية هناك، لا يهتم أحد في لبنان بذلك، ولا يطرح أحد ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الحال الشاذة. ولا يرى أحد من المسؤولين هذا الخطر الداهم الذي يمكن أن يكون عاملاً مساعداً في تفجير كل شيء إذا وقعت الواقعة.

 

الواضح أنه ربما أن لا أحد من هؤلاء المسؤولين قرأ يوماً كتاب «ما الذي يجب عمله في مواجهة حال عدم المساواة» للاقتصادي البريطاني الكبير أنتوني أتكينسون، ولا ما ذكره عن إمكان تمويل عملية إعادة إحداث التوازن في هذه المساواة ولو جزئياً بفضل إعادة توزيع الثروة ودور الدولة الاجتماعي واستنهاض جوانب من اقتصاد فقد مناعته منذ زمن ولن تفيد معه لا المساعدات ولا الهبات ولا القروض ولا «التسول الرسمي».

 

إن عودة حديث البعض عن لبنان «المعجزة الاقتصادية» باتت اليوم نوعاً من المهزلة وعدم احترام لذكاء اللبنانيين على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم السياسية والاجتماعية وحتى الطائفية. فيجب الإقرار بأن ما كان يسمى بـ «لبنان الجنة الاجتماعية» بالنسبة إلى باقي شعوب العالم العربي، لم يعد موجوداً نتيجة تفاقم حال عدم المساواة منذ ثلاثة عقود. فلبنان فقد دوره الاقتصادي والمالي المميز، على رغم رفض العديد من السياسيين وبعض الاقتصاديين هذا التشخيص والإصرار على ما يتمتع به من قدرات فكرية ومالية، ومستقبلاً ثروات غازية ونفطية قادرة على إعادة المناعة لاقتصاده، وتحسين مستوى عيش مواطنيه والقضاء على حال عدم المساواة النافرة.

 

لكن ذلك يتطلب وقتاً وظروفاً مواتية استثنائية لا يبدو أنها متوافرة في المدى القصير بعد انقضاء السنوات الذهبية التي عاشها لبنان خلال منتصف القرن الماضي، سواء فترة ندرة البطالة والنمو السريع لناتج الدخل القومي. كذلك، بات الارتفاع التدريجي للأجور لأكثر من 3.5 في المئة لعقود، وتوسّع هامش المكتسبات الاجتماعية حتى ولو كانت منقوصة، ومحاولة بناء ديموقراطية اجتماعية نموذجية، موضع اختلاف بين التيارات السياسية والقوى الاجتماعية، إلا أن هذه الأخيرة كانت أيضاً متضامنة للحفاظ على التجربة اللبنانية الفريدة.

 

هل فات الوقت لإنقاذ لبنان وتحديداً اقتصاده من الانهيار والعمل على استعادة مناعته؟ ممكن، إلا إذا كانت هناك نيات صافية وقادرة لدى المسؤولين والطبقة الحاكمة للتخلّي عن الامتيازات. وكما يقول الاقتصادي الفرنسي لويس شوفيل، في كتابه الذي يحمل عنوان «الطبقات الوسطى نحو الانهيار»، تكمن الصعوبة في أن النموذج المبني على هذه الطبقات كما هي حال لبنان، هو اليوم في وضعية مهتزة بالعمق كي لا نقول في حال موت سريري. فبعد مرور ثلاثة عقود من التراجع المستمر في الأداء وزيادة فجوة عدم المساواة وفقدان الطبقة الوسطى، ينبع الأمل مجدداً، خصوصاً إذا استعادت الدولة دورها وتمكنت السلطات العامة من استعادة شرعيتها عبر تحقيق نجاحات على المستوى الاجتماعي بالدرجة الأولى، وأدت النخبة دورها كما تطلب منها المسؤولية ذلك.

 

إن النموذج اللبناني الفريد يسمح بالأمل في تصديق استنهاض ديموقراطية المساواة، متحدية الانقسامات الطائفية والمذهبية أو حتى الفلسفية الناجمة عن منابت عرقية أو اجتماعية أو دينية، لأن كل مواطن يجب أن يكون له مكانه في هذا المجتمع.