IMLebanon

صراع الأجهزة يحرّر الانتحاريين

security

 

كتب رضوان مرتضى في صحيفة “الأخبار”:

بناءً على إشارة من القضاء العسكري، ترك فرع المعلومات انتحارياً كان قد أدلى باعترافات مفصّلة في التحقيق معه لدى الأمن العام. الموقوف، فور إطلاق سراحه، فرّ إلى الجرود ليلتحق بـ«جبهة النصرة». فمن يضمن أمن اللبنانيين في صراع الأجهزة؟

قد يكون «فرع المعلومات» التابع لقوى الأمن الداخلي الجهاز الأكثر احترافية إذا ما قورن ببقية الأجهزة الأمنية كالأمن العام واستخبارات الجيش. يصحّ ذلك طالما أبقى القيّمون على هذا الجهاز العمل الأمني بعيداً عن السياسة والكيدية.

ولكن، في حالة الصراع بين الأجهزة الأمنية وتسابقها على تحقيق الإنجازات على الأرض، تغيب الاحترافية ليحلّ محلّها توسّل كل السبل ــــ بما فيها الملتوية أحياناً ــــ لإفشال إنجاز لجهاز أمني من هنا، أو التقليل من أهمية إنجاز جهاز آخر من هناك، حتى لو كانت العواقب وخيمة على من يُفترض أن هذه الأجهزة تعمل للحفاظ على أمنهم وسلامتهم واستقرارهم.

وفي هذا السياق، سجّل فرع المعلومات «سبقاً» يرقى الى مستوى الفضيحة، بتغطية تامة من القضاء. إذ أطلق سراح انتحاري كان الأمن العام قد أوقفه رغم اعترافه بأنه كان يعدّ لتنفيذ عملية انتحارية، وإقراره باسم الشيخ الذي جنّده وتفاصيل أخرى. ففي ٢٠ تشرين الثاني الماضي، أوقف الأمن العام يوسف ديب اللبناني الجنسية. جاء ذلك بعد ثمانية أيام على التفجير الانتحاري المزدوج الذي تبنّاه تنظيم «داعش» في منطقة برج البراجنة، وخلّف 43 شهيداً و239 جريحاً. وبعد تواري شابين من بلدة ديب (م. عزوزي، وشاب من آل عجاج)، أحدهما سبق أن قاتل في سوريا، بدأ الأمن العام رصد عدد من الشبان في البلدة. وتبيّن أن أحد المختفين بعث برسالة إلى صديقته يقول لها فيها: «نلتقي في الجنة». كثّف محققو الأمن العام عملهم، فأوقفوا عدداً من الأشخاص، بينهم يوسف ديب.

وبحسب معلومات حصلت عليها «الأخبار»، اعترف ديب لدى اعتقاله بأنّه كان يعدّ لتنفيذ عملية انتحارية بالتنسيق مع الشيخ هـ. ت. وقد فاجأت اعترافاته ضباط الأمن العام المكلّفين بالتحقيق معه، ولا سيما أنّ الاعتراف كان سريعاً ولم تسبقه أي ضغوط من تلك التي يمارسها بعض الأجهزة أحياناً لانتزاع الاعترافات. إذ إن الخوف فضح الموقوف الذي اعتقل مع آخرين، لكنه انهار فجأة. وقد أقرّ يوسف بانتمائه إلى «جبهة النصرة»، وقال إنه بعدما ودّع والدته الوداع الأخير كان في صدد التوجّه إلى منطقة جرود عرسال برفقة أحد الأشخاص، للقاء أمير «جبهة النصرة» في القلمون أبو مالك التلّي، على أن يعود بعدها الى بيروت لتسلم حزام ناسف وانتظار تحديد الساعة الصفر لتنفيذ العملية في مقهى مكتظ في جبل محسن. غير أنه تراجع عن الذهاب الى الجرود نزولاً عند إلحاح والدته التي «قبّلت قدميّ لعدم الذهاب فقررت إرجاء ذهابي الى وقت آخر». وقد وجدت في حوزة ديب رسائل هاتفية قصيرة وعلى الـ»واتساب» تشير الى الحزام الناسف بـ»الغرض». وعلمت «الأخبار» أن الموقوف كرر إفادته أكثر من مرة، وأنه في كل مرة كان المحققون يتهمونه بالمبالغة والكذب، كان يجيب بإعطاء المزيد من التفاصيل. وأبدى استعداده لمواجهة الشيخ هـ. ت. الذي أفاد بأنّه جنّده وكان يُنسّق معه لتسلم الحزام الناسف واختيار مكان التفجير.

وقال إن الشيخ كان سيتولى إيصاله إلى مكان قريب من ساحة في جبل محسن، على أن يُكمِل «الانتحاري» سيره مشياً على الأقدام. وقال إن الشيخ طلب منه شراء قبعة عليها عبارات باللغة الإنكليزية لكي يعتمرها يوم التفجير بهدف التخفيف من لفت الأنظار نحوه أثناء سيره في «الجبل». ولدى استدعاء الشيخ الى المواجهة، أنكر الأخير ادعاءات ديب الذي أصرّ على اعترافاته. وبناءً على إشارة النيابة العامة، أطلق سراح الشيخ، أما ديب، فأحيل إلى النيابة العامة العسكرية.

وحينذاك، أصدر الأمن العام بياناً قال فيه إن «الموقوف ينتمي الى جبهة النصرة ــــ فرع القاعدة في بلاد الشام، وكان في صدد التحضير لتنفيذ عملية انتحارية».

بدأت سلسلة المفاجآت بقرار أصدرته النيابة العامة العسكرية، بإحالة الموقوف على فرع المعلومات. وأمام محققي الفرع المذكور، أكّد الإفادة التي أدلى بها أمام الأمن العام. عاود محققو «المعلومات» مواجهته بالشيخ هـ. ت.، فتراجع ديب عن إفادته الأولية، قائلاً إنها انتُزِعت منه تحت التعذيب. وصار يبكي طالباً من الشيخ أن يسامحه. خابر المحققون النيابة العامة العسكرية، ووضعوا أمامها نتيجة التحقيق. قالوا للمدعي العام إن الموقوف تراجع عن إفادته، وإنه اعتذر من الشيخ، وإنهم لم يضبطوا أي دليل على إفادته الأولى. مباشرة، أصدرت النيابة العامة العسكرية إشارتها إلى «المعلومات» بإطلاق سراح ديب.

المفاجأة الكبرى ظهرت هنا. فعقب إطلاق سراحه، سارع ديب إلى الالتحاق بصفوف «جبهة النصرة» في جرود السلسلة الشرقية! ما يدفع الى طرح جملة من الأسئلة على الأجهزة المفترض أنها معنية بأمن اللبنانيين: هل يكفي تراجع موقوف أقرّ بأنه كان ينوي تنفيذ عملية انتحارية عن إفادته لإطلاق سراحه؟ وعلامَ استند القضاء العسكري لإعطاء إشارة بإخلاء سبيله؟ ولماذا يجب التعاطي مع تحقيقات فرع المعلومات على أنها أكثر دقة من تلك التي أجراها الأمن العام؟ ومن سيُحاسب من إذا ما قيّض لهذا الانتحاري العودة لتفجير نفسه في أي من المناطق؟ هل كان وزير العدل المستقيل يعرف تفاصيل هذه القضية وتجاهل تحريك هيئة التفتيش للتحقيق بهذه الفضيحة؟ أم أنه لم يعرف ما جرى؟ وماذا عن وزير الداخلية؟ هل أوقعت النيابة العامة العسكرية بين جهازين أمنيين تابعين له، أم أن أحد الجهازين حاول «التعليم» على الآخر، فارتأى التدخل في عمله للقول إن «الأمن العام يتسرّع في إصدار بيانات غير ذات قيمة»، فما كان منه إلا أن أطلق شخصاً اعترف بأنه كان ينوي تفجير نفسه في مقهى؟ ومن يتحمّل مسؤولية ما جرى؟ هل هم المحققون الذين وضعوا «المعطيات» في تصرف القضاء لاتخاذ القرار، أم القاضي الذي أراد، لأسباب مجهولة، التشكيك بتحقيقات جهاز أمني ومنح ثقته كاملة إلى جهاز آخر تبيّن أنه لم يكن على حق؟ لا شك أن الأسئلة ستضيع في بلاد لا محاسبة فيها، لتبقى الحقيقة الوحيدة أن انتحارياً مفترضاً عاد إلى الحرية، بقرار قضائي.