كتبت صحيفة “الشرق الأوسط”: في الأسابيع الأخيرة كان وزير العدل اللبناني أشرف ريفي الذي اصطلح على وصفه بـ”الوزير المشاكس” داخل الحكومة٬ هو الحدث في لبنان٬ خصوصًا بعد استقالته المفاجئة من الحكومة.
ريفي كان أعلن أكثر من مرّة تبرمه من حكومة ليست عاجزة عن حل مشكلات الناس فحسب٬ إنما باتت مطية لـ”حزب الله”٬ خصوًصا أنها بدت عاجزة عن التصدي لموقف وزير الخارجية جبران باسيل الذي أخرج لبنان عن الإجماع العربي٬ وأسهم موقفه في جامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي في ضرب علاقة لبنان بالمملكة العربية السعودية والدول العربية الأخرى.
أنصار الوزير أشرف ريفي يرفضون تسميته بـ”المشاكس”٬ بل يعتبرونه صاحب مبدأ الدفاع عن الدولة في وجه الدويلة. والرجل المتصالح مع نفسه٬ وصاحب الموقف وليس الموقع. ويقول هؤلاء: “أشرف ريفي كان في الموقع (الحكومة) مع وضوح في الموقف٬ واليوم ماض في الموقف من دون الموقع٬ خصوًصا بعدما لمس أن هذا الموقع لم يعد يخدم القضية التي دخل الحكومة من أجلها”.
أيضا يرفض أصدقاء ريفي مقولة انقلابه على قرار تيار “المستقبل”٬ إذ يؤكدون أنّه ليس عضًوا في هذا التيار٬ لكنه “حالة حريرية مستقلة”٬ والقواسم المشتركة بينه وبين الرئيس سعد الحريري كبيرة جًدا٬ لكن عندما يكون القرار في تيار “المستقبل” غير منسجم مع قناعته يعّبر عن رأيه بوضوح٬ مثل حالة ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. ومن ثم٬ يشددون على أن اللواء المتقاعد سيبقى مقاتلاً شرًسا لقضيته٬ فلا تساهل ولا مسايرة على مبدئه وقناعاته.
نشأ وزير العدل اللبناني أشرف ريفي في عائلة فقيرة وعصامية٬ لكنه كان مسيّسًا من نعومة أظفاره٬ ولقد عايش حقبة صعبة جبلته في السياسة كما في الأمن والروابط الاجتماعية.
والده٬ أحمد ريفي٬ كان يمتلك مطحنة للحبوب في منطقة القبة الشعبية الفقيرة في مدينة طرابلس عاصمة شمال لبنان٬ حيث ولد نجله أشرف مع شقيقين وخمس شقيقات.
حال الأب لم تكن تسمح بتعليم أولاده الثمانية في مدارس خاصة٬ فاتّجه أشرف للدراسة إلى مدرسة القبة الرسمية (الحكومية). وإلى جانب متابعته دراسته في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة٬ كان يساعد والده مع شقيقيه الأكبر عبد الرحيم والأصغر جمال في المطحنة التي يستثمرها الوالد٬ فكان يغسل البرغل٬ وهو القمح مسلوقًا ومكّسرة حبوبه٬ قبل سلقه. بيد أن شغفه برياضة كرة القدم كان واضًحا منذ الصغر. إذ عشق هذه الرياضة الأكثر شعبية٬ فانتمى إلى “النادي الاجتماعي”المعروف في الوسط الرياضي اللبناني٬ وكان حارس مرماه الأساسي.
وبعد مرحلة المتوسطة٬ انتقل الشاب الطامح لدراسة الهندسة إلى ثانوية المئتين في حرمها بشارع المئتين الموازي لشارع عزمي٬ أحد أكبر شوارع طرابلس وأشهرها. وفي هذه المدرسة أكمل علومه الثانوية٬ لكنه بدا أكثر انخراطا في الشأن العام من خلال نشاطه في الحركات الطلابية التي تّوجت بانتخابه رئيًسا لرابطة الطلاب في الثانوية. وعلى الصعيد العائلي لم يكن الشاب الطامح لكل شيء بعيًدا عن أجواء السياسة٬ فوالده كان مسؤول الحزب “التقدمي الاشتراكي” الذي كان يرأسه الزعيم الراحل كمال جنبلاط (والد النائب وليد جنبلاط) وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي في عام 1993.
وفي عام 1973 نجح ريفي في مباراة الدخول إلى الكلية الحربية كتلميذ ضابط في قوى الأمن الداخلي. وإلى الكلية الحربية نقل معه هوايته الرياضية٬ وغدا حارس مرمى فريق الكلية الحربية لكرة القدم أيضًا.
يروي عارفو ريفي قصة لافتة٬ إذ خلال دورة لكرة القدم٬ تأهل للمباراة النهائية فريق الكلية الحربية وفريق الجامعة الأميركية في بيروت وأقيمت هذه المباراة على ملعب الأخيرة. وأثناء المباراة احتسب الحكم ركلة جزاء ضدّ فريق الحربية٬ وكان الفوز في هذه المباراة أمرًا حاسمًا في تحديد هوية بطل الدورة. وبينما كان ريفي يتهيّأ لمواجهة ضربة الجزاء٬ تقدّم منه قائد الكلية الحربية الذي كان يتابع المباراة مع عدد كبير من الضباط وهمس في أذنه: “إذا نجحت في صدّ هذه الكرة٬ سأعفيك من الحجوزات طيلة سنوات الدورة الثلاث”. وقبل حارس المرمى الشاب ذلك التحّدي وتمكن من كسبه٬ إذ صد الكرة وساعد فريقه على أن يتّوج بطلاً لتلك الدورة.
تخرّج ريفي ورفاقه من الكلية الحربية لكن فرحة التخرج لم تكتمل٬ إذ ما إن انتهت الدورة العسكرية٬ في العام أواخر العام 1975 حتى وقع ما يعرف بـ”انقلاب اللواء عزيز الأحدب” على السلطة الشرعية في الأشهر الأخيرة من عهد الرئيس سليمان فرنجية. وبالتالي٬ اضطرّ كل ضابط متخّرج إلى الالتحاق بمنطقته بعد انفراط عقد الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية.
غير أن الضابط المتخرج الشاب رفض أن يكون جزًءا من محاور الصراع في الداخل٬ فاختار العاصمة الفرنسية باريس وجهة له. ومن هناك التحق بعدد من رفاقه الذين سبقوه إلى جامعة مونبلييه العريقة في جنوب فرنسا٬ ليختار التخصص في هندسة الكيمياء ويتابع تحصيله العلمي. ولكن سرعان ما طرأ في لبنان تطّور جديد أعاده إلى أحضان مؤسسته الأمنية. فإثر انتخاب الرئيس إلياس سركيس دعا الرئيس الأسبق الراحل كل موّظفي الدولة في المؤسسات المدنية والعسكرية إلى العودة إلى مؤسساتهم٬ فحزم ريفي حقائبه وعاد إلى لبنان على الفور ليلتحق بمؤسسة قوى الأمن.
وهنا يؤكد أصدقاء اللواء ريفي أنّ الأخير ترك بصماته في كل المراكز التي شغلها٬ لكن الموقع الذي أّثر وتأثر فيه٬ هو مركز رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي. لقد كان أول ضابط يعّين في هذا الموقع٬ ومنه تمكن من نسج شبكة علاقات مهمة مع كثرة من الإعلاميين٬ وهو يعتز بأن معظم أصدقائه الإعلاميين من تلك الحقبة شغلوا مناصب رؤساء تحرير في مؤسسات إعلامية مهمة٬ وعلاقاته بهم مستمرة حتى الآن.
من ناحية أخرى٬ عززت علاقات ريفي المميزة معَ من هم على احتكاك معه ثقة رؤسائه به٬ وكانت بالتالي مدخلاً لتعيينه رئيًسا لسرية رئاسة الحكومة في أواخر عام 1988. تزامن ذلك مع دخول لبنان مرحلة دقيقة جًدا كان فيها الدكتور سليم الحص رئيًسا لحكومة مدنية مقابل حكومة عسكرية كان يرأسها ميشال عون.
وحينذاك٬ ساعده قربه من الحص ومن الوسيط العربي الأخضر الإبراهيمي في مرحلة التحضير لـ”اتفاق الطائف” في أن يطّل على المجتمع السياسي من بابه الواسع٬ فتعمقت علاقاته مع السياسيين اللبنانيين وغير اللبنانيين بشكل أوثق.
بعد استقالة حكومة الحص التي أتت بعد الطائف٬ُعّين الرئيس عمر كرامي رئيًسا للحكومة٬ ولأنّ عائلة ريفي على خصومة سياسية محلية مع آل كرامي في مدينة طرابلس٬ كان الشرط الأول لرئيس الحكومة نقل ريفي من هذا المنصب. وفي الحقيقة٬ لم يفاجأ الأخير بهذا القرار٬ الذي أدى إلى تعيينه مديًرا لجهاز أمن الدولة في شمال لبنان٬ حيث بقي فيه إلى أن تولّى رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري رئاسة الحكومة.
عارفو ريفي يرون أنّ الحريري الأب استدعاه ذات يوم في عام 1994 إلى مكتبه في السراي الحكومي في بيروت وأبلغه أنه سيؤسّس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي٬ وطلب منه تسلّم رئاسة هذا الفرع. بالفعل٬ أعطاه هذا الموقع خبرة كبيرة في مجال الاستعلامات والمخابرات٬ غير أنّ الوصاية السورية في تلك الأيام كانت ترسم سقفا لهذا الفرع بحيث لم يتخطّ الـ120 عنصًرا و7 ضباط. ثمّ استبعد من رئاسة فرع المعلومات مع خروج رفيق الحريري من الحكم مع وصول إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية.
عند هذه المحطة نقل ريفي إلى الشمال٬ وجاء نقله بما يشبه المنفى المعنوي٬ لكنه مع ذلك بقي على تواصل مع رفيق الحريري٬ وكان يزوره ثلاث مرات في الأسبوع (الاثنين والأربعاء والجمعة) مرتدًيا البزة العسكرية متمردا على كل المحظورات والمضايقات التي كان يتعّرض لها من قيادته. ويذكر أنّه في تلك الفترة افتتح لحود عهده بحرب إعلامية وقضائية وأمنية عنيفة على الحريري غايتها إخراجه من الحياة السياسية في لبنان، مستندًا بذلك على ما كان يُعرف بـ”الجهاز الأمني اللبناني السوري”.
بعد ذلك٬ شّكل فوز رفيق الحريري الكاسح في انتخابات عام ٬2000 فرصة لعودة ريفي إلى رئاسة جهاز المعلومات٬ إلا أن رئيس جهاز الأمن والاستطلاع السوري (المخابرات) في لبنان اللواء غازي كنعان وضع “خًطا أحمر” أمام الرغبة الحريرية. وفي ضوء ذلك كان المكان الأفضل لريفي رئاسة قسم المباحث الجنائية الخاصة٬ الذي بقي فيه إلى أن أخرج الحريري لآخر مرة من رئاسة الحكومة في (تشرين الأول) من عام 2014. وبعد تولّي النائب الحالي سليمان فرنجية منصب وزير الداخلية نقل ريفي عقابيا إلى المفتشية العامة لقوى الأمن الداخلي بما يشبه المنفى السياسي.
يتحدث أصدقاء ريفي عن الأثر السلبي الذي تركه اغتيال رفيق الحريري في نفسه. ويذكرون أنه صباح يوم الاغتيال في 14 شباط ٬2005 وصل ريفي مع زوجته المحامية سليمى أديب إلى قصر قريطم عند العاشرة صباًحا واجتمع بالحريري لمدة 25 دقيقة٬ وكانت أمام الأخير صحيفة “المستقبل” التي نشرت في “المانشيت” تعيين آصف شوكت (صهر بشار الأسد) رئيًسا لشعبة المخابرات العسكرية السورية٬ وما ترك ذلك من دلالات أمنية لافتة كان لها تفسيراتها في مرحلة ما بعد الاغتيال.
واقعة لافتة أخرى يرويها لصيقون بريفي أيضا، أنه “ليل 24 كانون الأول 2014، أي ليلة يوم الميلاد٬ كان يمارس رياضته في نادي “باناسيا” الرياضي بمنطقة الجناح في بيروت٬ حضر مسؤول أمني وأبلغه أنّ إسم رفيق الحريري وضع على لائحة الاغتيال بقرار سوري كبير. فوًرا ترك ريفي رياضته وانتقل على عجل إلى قصر قريطم وعقد جلسة مع الحريري أبلغه مضمون الرسالة التي وصلته٬ أي أنّ القيادة السورية اتخذت القرار باغتياله ووضعته موضع التنفيذ بغّض النظر عن الجهة المنفذة. ومن ثم٬ تمّنى على الحريري ألا يتساهل في هذا الأمر بل يتخذ كل الاحتياطات اللازمة. كذلك نصحه بأن يغادر البلد في هذه المرحلة ولو لفترة قصيرة إلى أن تتبدل الظروف. لكن جواب الحريري كان: “أنا أعرف أنّ لديهم إرادة باغتيالي٬ لكنهم لا يجرؤون على فعلها لأنها ستكلّفهم الكثير٬ ولدي تطمينات من قادة دول مؤّثرة حصلوا عليها من بشار الأسد شخصيا”. ولم تتوقف تحذيرات ريفي عند هذا الحّد. ففي الأسبوع الأول من كانون الثاني 2005 التقى ريفي شخصية أمنية على علاقة بالسوريين٬ وأبلغه الأخير أن الأجواء غير مطمئنة بالنسبة للحريري٬ وكرر إبلاغ الأخير بالأمر٬ لكنه سمع منه الجواب نفسه. وعندها رّد ريفي: “أنت تعرف أن هذا النظام لا يقيم اعتبارًا للعلاقات الدولية٬ والجو ذاهب باتجاه الاغتيال بغض النظر عن الأداة التي قد تنفذ الجريمة”. في الأول من نيسان 2013 أحيل ريفي على التقاعد لبلوغه السّن القانونية (59 سنة) فكان تقاعده من مؤسّسة قوى الأمن خسارة كبيرة لفريق “14 آذار” الذي أخفق في التمديد له لأنّ الحكومة التي كان يرأسها نجيب ميقاتي كانت خاضعة لنفوذ “حزب الله”.
وبعد التقاعد كان ثمة فترة زمنية فاصلة لتقييم مرحلة ما بعد التقاعد. لكن لا الشأن العام ولا الوضع الأمني تركا ريفي وشأنه٬ إذ تعرض عام 2013 لإصابة طفيفة جراء تفجير سيارة مفخخة أمام منزله في طرابلس المواجه لمسجد السلام في طرابلس الذي فّجر بالتزامن مع تفجير مسجد التقوى٬ وأودى تفجيرا المسجدين إلى مقتل 54 مصلًيا وجرح أكثر من 250 آخرين. ولقد ردد ريفي غير أن معلوماته تفيد أنه كان المستهدف بالتفجير٬ خصوصا أن السيارة المفخخة كانت تحاول الوقوف أمام منزله في البداية٬ لكنّ حراسه منعوا سائقها من الوقوف فالتفّ وأوقفها في الجهة المقابلة.
بعد تلك الفترة سافر ريفي لأيام إلى المملكة العربية السعودية٬ ثم قادته سفرة عائلية طويلة إلى فرنسا وأستراليا٬ قبل أن يعود إلى لبنان ويستأنف علاقاته مع الناس٬ إلى أن شكلت حكومة الرئيس تمام سلام. ويقول مقربون منه أن اسمه كان مطروحا كوزير للداخلية٬ لكن فيتو “حزب الله” حال دون تسلمه هذه الوزارة. وعندها عرضت عليه وزارة الشؤون الاجتماعية٬ لكن ريفي رفضها. وفي نهاية المطاف٬ رست التسوية على تسليمه حقيبة العدل٬ فكان له دور في تنظيم هيكليتها الجديدة٬
وإنجاز خريطة المحاكم التي تخدم لبنان لـ50 سنة مقبلة٬ بالإضافة إلى إعداد مشروع قانون المنظومة القضائية الجديدة البديلة عن المحاكم الاستثنائية.