تُعِدّ بريطانيا العُدّة لإجراء استفتاء حول فكرة خروجها من الاتحاد الأوروبي في 23 حزيران المقبل، وسط انقسام حاد سواء داخل المملكة المتحدة وأركان حزبها المحافظ الحاكم حالياً، أو على مستوى قادة القارة الأوروبية، حول تشخيص المصلحة المتوخاة من خطوة تاريخية كهذه، إن لبريطانيا نفسها، أو لهذا التكتل الذي يضم حالياً 28 دولة.
تبلور قيام الاتحاد الأوروبي ككيان سياسي – اقتصادي أساساً بدفع رُباعي من بريطانيا نفسها بالتضافر مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا، بموجب «معاهدة ماستريخت« الموقعة عام 1993، بعد محاولات حثيثة لتأسيسه منذ خمسينيات القرن الماضي، انطلاقاً من «الجمعية الأوروبية للصلب والفحم عام 1951 على يد ألمانيا الغربية وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ.
أما أول وحدة جمركية فقد أنتجتها اتفاقية روما عام 1957، ودخلت حيّز التنفيذ مطلع كانون الثاني 1958، وعُرفت على أنها «المؤسسة الاقتصادية الأوروبية»، وكانت تطلق عليها المملكة المتحدة تسمية غير رسمية هي «السوق المشتركة».
ليست هي المرة الأولى التي يُطرح فيها خروج أحد الأعضاء من الاتحاد. فقد سبق أن جرى تداول احتمال إخراج اليونان عند بلوغها حافة الإفلاس تكراراً خلال الأعوام القليلة الماضية، لكن الاتحاد آثر إنقاذها على انفراط عقده.
بريطانيا لم تكتفِ بعدم الاندماج تماماً في الجسم الاقتصادي الأوروبي من خلال نأيها بنفسها أساساً عن العملة الموحدة (اليورو) محتفظة بالجنيه الإسترليني، كما لم تنخرط جغرافياً باتفاقية شينغن لفتح الحدود. فها هي اليوم تستفتي شعبها للابتعاد عن «القارة العجوز» التي تعاني مشكلات اقتصادية ومالية عميقة، تفاقمها «ورطة» أزمة اللاجئين الآخذة في التعاظم.
وريثما يحين موعد الاستفتاء، تتجلى يوماً بعد آخر صورة انقسام الآراء حول الخطوة البريطانية المزمعة على المستويين الداخلي والخارجي.
تضارب توقعات «البزنس»
داخلياً، أعلن قطاع صناعة السيارات في بريطانيا هذا الأسبوع تأييده لبقاء بريطانيا في الاتحاد الاوروبي، الا ان انصار الخروج من الاتحاد حذروا من تكاليف الاجراءات الروتينية الاوروبية في وقت تقلق معركة الاستفتاء قطاع الأعمال البريطاني.
وقبل أقل من 4 أشهر على اجراء الاستفتاء، اعلنت جمعية منتجي وتجار السيارات ان نحو 75 في المئة من اعضائها يعتقدون ان البقاء في اوروبا افضل للشركات. غير ان مجموعة «ليف.اي يو« (اتركوا الاتحاد الاوروبي) المؤيدة للخروج من الاتحاد الاوروبي نشرت رسالة مفتوحة موقعة من رؤساء اكثر من 200 شركة صغيرة، تدعو البريطانيين الى التصويت على الخروج من الاتحاد وتنتقد قوانين الاتحاد المفرطة.
واظهر استطلاع اجراه معهد «كومريس« المستقل للاستطلاعات لحساب نقابة منتجي وتجار السيارات ان الغالبية العظمى من شركات انتاج السيارات قالت ان الخروج من الاتحاد الاوروبي سيكون له انعكاسات سلبية عليها.
وشمل الاستطلاع 204 من اعضاء النقابة البالغ عددهم الاجمالي 475 عضوا من بينهم شركات صغيرة واخرى عملاقة مثل «تويوتا« اليابانية و«بي ام دبليو« الالمانية. 77 في المئة من تلك الشركات قالت انه اذا جرى الاستطلاع غدا، فان التصويت على بقاء بريطانيا في الاتحاد سيكون الافضل بالنسبة لهم. وتبين ان 9 في المئة فقط قالوا ان الخروج من الاتحاد سيكون الخيار افضل، بينما قال 14 في المئة انهم غير متأكدين.
وقال الرئيس التنفيذي للنقابة ،مايك هوس، ان «الرسالة من قطاع صناعة السيارات البريطاني واضحة: البقاء في اوروبا مهم جدا لمستقبل هذه الصناعة ولضمان الوظائف والاستثمارات والنمو«. اضاف «ان صناعتنا تدعم 800 الف وظيفة في انحاء بريطانيا وتسهم بأكثر من 15 مليار جنيه استرليني (21 مليار دولار، 19 مليار يورو) في اقتصاد الاتحاد الاوروبي. ومن بين الجوانب الايجابية الاخرى التي طرحت قدرة الحصول على اليد العاملة الماهرة والقدرة على التاثير على معايير وانظمة هذه الصناعة«.
كما اظهر الاستطلاع ان 88 من شركات صناعة السيارات الكبيرة تعارض الخروج من الاتحاد الاوروبي حيث اعربت كل من بي ام دبليو وفوكسهول وتويوتا صراحة عن معارضتها لذلك. ونشرت رسالة الاسبوع الماضي ناشد فيها 36 من رؤساء الشركات المدرجة على مؤشر فوتسي لـ100 شركة كبرى، بريطانيا ان تبقى في الاتحاد الاوروبي للحفاظ على الوظائف وتشجيع الاستثمار.
إلا ان شركات صغيرة قالت ان الخروج من الاتحاد الاوروبي سيمنحها قدرا اكبر من المرونة والتأقلم وتجنب الاجراءات الروتينية المكلفة، بحسب رسالة نشرتها مجموعة «ليف.اي يو«. وجاء في الرسالة «بوصفنا رواد اعمال فاننا نتعامل مع تدفق مستمر من الانظمة الاوروبية غير الضرورية التي تزيد من تكاليفنا وتزيد من الاسعار على عملائنا دون اي عائد«. واضافت الرسالة «ثمن هذا هو في الغالب خسارة الوظائف. اذا كانت مؤسسات الاتحاد الاوروبي صماء لا تسمع الرغبة الحقيقية للتغيير للحفاظ على التنافسية، فان مصير هذا الاتحاد هو الفشل«.
وبالعكس من ذلك، كتب تورستين مولر- اوتفوس رئيس شركة سيارات رولز رويس التي تملكها شركة بي ام دبليو، رسالة الى جميع العمال البريطانيين يحذرهم فيها من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي سترفع التكاليف وتؤثر على الوظائف، مضيفا ان التجارة الحرة «مهمة« للشركات العالمية.
واضاف في الرسالة التي حصلت عليها صحيفة غارديان ان «عوائق التعرفات الجمركية ستعني زيادة التكاليف وزيادة الاسعار، ولا نستطيع ان نفترض ان بريطانيا ستمنح حق التجارة الحرة مع اوروبا. وقد تتأثر قاعدتنا التوظيفية«.
ضغوط فرنسية وألمانية
الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند حذر من «التبعات« التي سيخلفها خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي مطالبا مع رئيس وزراء هذا البلد ديفيد كاميرون بضرورة التحاق الاطفال الذين لديهم عائلات في المملكة المتحدة بذويهم.
وصرح هولاند للصحافيين عقب لقاء مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في مدينة اميان شمال فرنسا «لا اريد ان اخيفكم، لكن الحقيقة انه ستكون هناك تبعات ضمنها الطريقة التي سندير فيها مسائل اللاجئين«. وقال ان الاطفال الذين لا يرافقهم احد من ذويهم في مخيم كاليه للاجئين المعروف باسم «الغابة« الذين لهم اقارب في بريطانيا، يجب ان يتم لم شملهم مع عائلاتهم «بسرعة«. واضاف «عندما يكون لهؤلاء الشبان الصغار اقارب في بريطانيا«. من جهته، ايد كاميرون ذلك داعيا الى «العمل بسرعة وبشكل افضل« من اجل ذلك. وقال «اذا كان لدى احد من هؤلاء عائلة مباشرة في بريطانيا فبإمكانه المجيء للالتحاق بها حتى ولو قدم طلبا للجوء في فرنسا«.
وتأتي تصريحاته بعد ان اثار وزير الاقتصاد الفرنسي ايمانويل ماكرون احتمال ظهور مخيمات على الشاطئ الجنوبي لبريطانيا تشبه مخيم «الغابة«. وصرح لصحيفة فاينانشال تايمز ان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي سيلغي اتفاقا بين البلدين يسمح لبريطانيا بالقيام بعملية ضبط الجانب الفرنسي من الحدود. وأضاف «في اليوم الذي تنهار فيها هذه العلاقة، لن يكون هناك مهاجرون في كاليه«.
وفي موقف ينطوي على نوع من الابتزاز، رفض وزير الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ماكرون التعليق على تصريحاته لصحيفة فاينانشال تايمز حول بريطانيا، أشار فيها إلى أن فرنسا ستسمح لمهاجرين بالانتقال إلى بريطانيا بعد إنهاء ضوابط حدودية إذا أيد الناخبون البريطانيون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
وفي محاولة لتحذير لندن من خسارة مركزها المالي الإقليمي وربما الدولي، قال الوزير إن فرنسا ستفتح ذراعيها للمصارف التي تتخذ من بريطانيا مقرا لها والتي سترغب في الرحيل منها إذا خرجت من الاتحاد الأوروبي.
ألمانياً، قال وزير المالية ولفغانغ شويبله ان الاتحاد الاوروبي سيكون «اقل استقرارا« اذا فاز الاستفتاء حول خروج بريطانيا من هذا التكتل، مضيفاً أنه اذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الاوروبي فيعتقد انها تخاطر بان تصبح القارة الاوروبية اقل استقرارا واكثر عرضة للاضطراب.
وكان شويبله يتحدث الى جانب نظيره البريطاني جورج اوزبورن في المؤتمر السنوي لغرف التجارة البريطانية في لندن، حيث قال اوزبورن «اذا خرجنا من الاتحاد الاوروبي فإن أكثر من 50 من صفقاتنا التجارية مع الدول الاخرى في العالم ستنهار تلقائيا لانها اتفاقيات تجارة مع الاتحاد الاوروبي«.
وحذر اوزبورن كذلك من انه اذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، فانا ستتمكن من الاحتفاظ بالوضع الخاص المتعلق بالتجارة، مضيفاً أن بريطانيا ستضطر الى المساهمة في ميزانية الاتحاد الاوروبي دون ان يكون لها راي في تحديد القواعد والقوانين.
تحذيرات أوزبرون هذه تأتي في وقت يشهد فيه الاقتصاد البريطاني مزيداً من المؤشرات الهبوطية، وأحدثها انخفاض معدل نمو قطاع البناء البريطاني على نحو مفاجئ إلى أدنى مستوياته في 10 أشهر في شباط في علامة جديدة على تباطؤ الاقتصاد، إلى جانب هبوط أسعار المتاجر بوتيرة أسرع من الشهر السابق مواصلة التراجع للشهر الرابع والثلاثين على التوالي مع لجوء شركات التجزئة إلى تخفيضات أكثر حدة في الاسعار لإجتذاب المتسوقين الحذرين، فضلاً عن تسجيل المصانع أضعف أداء شهري في نحو 3 سنوات مع تباطؤ الطلب المحلي وانخفاض طلبيات التصدير.