IMLebanon

«أوبر» ينقل ضواحي باريس الفقيرة من الجريمة إلى دنيا الأعمال

uber-taxi
آن سيلفين تشاساني

يرغب بابا، أو “سانكا” كما هو معروف بين أصدقائه في بوبيني، إحدى ضواحي باريس الشمالية، في أن يقول إن شركة أوبر أخرجته من السجن – وأبقته خارجه.

باعتباره أحد المتسربين من المدرسة الثانوية، بدأ بابا الانزلاق نحو أنواع بسيطة من الجرائم في سنوات مراهقته، تماما مثل كثير من الشباب القاطنين في الجيوب التي يعيش فيها المهاجرون، المنكوبة بالبطالة، التي تطوق العاصمة الفرنسية. عندما كان في الـ 17 من عمره، حكم عليه بالسجن أربعة أشهر بتهمة السرقة. وتم إلغاء الحكم من سجله لأنه كان دون سن الـ 18، لكن في عام 2012 دخل السجن مرة أخرى.

بحلول ذلك الوقت، كانت “أوبر” قد أطلقت تطبيق سيارات الأجرة في فرنسا. وقدم صديق كان قد أنشأ شركة صغيرة لسيارات الأجرة باستخدام تكنولوجيا “أوبر”، لبابا فرصة للعمل سائقا وبذلك سمح له القاضي بالخروج مبكرا بموجب مراجعة قضائية. منذ ذلك الحين، كان بابا يعمل من عشر إلى 12 ساعة ليلا، بواقع ستة أيام في الأسبوع. وفي عام 2014، حصل على ترخيص لتشغيل خدمة السائق الخاصة به.

يقول بابا: “من دون هذه الفرصة، ربما كنت الآن في السجن”، ضاحكا وهو يقود سيارة البيجو خاصته متجها إلى مرآب عبر صفوف متهدمة من المنازل الصغيرة.

الآن، يريد بابا الذي يبلغ من العمر 24 عاما تأسيس شركة نقل مع شقيقته الكبرى وتوظيف أشخاص يعملون لديه. وهو الآن يعتبر قدوة لصديقه أمارة كويتا، سائق آخر لدى “أوبر”، الذي يقول إنه تجنب دخول السجن فقط لأن والدته أرسلته إلى السنغال ليدرس الدين لمدة ثلاث سنوات بعد تسربه من المدرسة.

بينما يشير إلى ساحة فارغة محاطة بمحل للكباب وسوبر ماركت ومجموعة من الشقق، يتأمل بابا كيف عملت هذه الوظيفة على تغيير حياته.

يقول: “قبل إدخال هذا التطبيق، كنا نقف جميعا هناك، نتحدث في أمور سخيفة طوال اليوم. الآن أمتلك سيارة جميلة، واشتريت بدلة ماركة زارا. أحب هذا العمل، أحب القيادة عبر باريس، والتكلم مع الزبائن. وإن عملت بجد واجتهاد، أحصل على المال الوفير. لن أفرط في هذه الفرصة”. إلا أن “أوبر” لم تكن موضع ترحيب من الجميع. فعندما افتتحت الشركة خدماتها في باريس وغيرها من المدن الأوروبية الأخرى، واجهت مقاومة من قبل شركات سيارات الأجرة. وكان رد الفعل الأكثر شراسة في فرنسا، مع ظهور احتجاجات غاضبة وحتى هجمات على سائقي “أوبر”. وتم احتجاز اثنين من المسؤولين التنفيذيين لدى أوبر من قبل الشرطة وتجري محاكمتهما في باريس بتهمة “التواطؤ في ممارسة غير قانونية لمهنة سيارات الأجرة”.

مع ذلك، في الضواحي الفرنسية، مثل بوبيني، يمثل ظهور “أوبر” وغيرها من خدمات سيارات الأجرة الصغيرة الفرنسية شيئا آخر: موطئ قدم في سوق العمل بالنسبة لآلاف من الشباب غير المتعلمين من ذوي الأصول المهاجرة.

العبء على الضواحي

كانت الضواحي الفرنسية، كما تسمى تلك المناطق المحرومة، بمنزلة عبء على فرنسا لأربعة عقود. وكانت مسرحا لأعمال شغب وقعت في 2005 بعد وفاة اثنين من المراهقين المطاردين من قبل الشرطة في كليشي – سو – بوا، التي تبعد عشرة كيلو مترات عن بوبيني. قدمت الحكومة 40 مليار يورو لأعمال التجديد، لكن البطالة لا تزال أعلى من المتوسط والمناطق تعاني الجريمة والتمييز، إضافة إلى التهديد الأحدث المتمثل في تطرف الإسلاميين.

في بوبيني تبلغ نسبة البطالة 22 في المائة، ضعف المعدل الوطني. وأكثر من ثلث الذين تراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما عاطلون عن العمل.

واستغرق الأمر بضع سنوات لتعمل “أوبر” وغيرها من المنصات التي تتحدى الاحتكار الباريسي لسيارات الأجرة على استحداث أكثر من 15 ألف فرصة عمل. (نحو 5300 شخص يعملون لحسابهم الخاص والبقية تعمل مع شركات سيارات الأجرة الصغيرة). وهم في منافسة ضد سيارات الأجرة المرخصة في باريس والبالغ عددها 17 ألف سيارة.

تقول سابرينا لورو التي تعمل لدى “بلانيت آدم”، وهي منظمة غير ربحية تساعد القاطنين في الضواحي على تأسيس الأعمال التجارية الخاصة بهم: “كانت هناك موجة كبيرة من الشركات الناشئة في تلك الضواحي. جيل بأكمله يريد أن يصبح من سائقي أوبر”. وتناسب أوبر أولئك الذين لا يحملون شهادة دبلوم، أو ليست لديهم أي خبرة في العمل، بحسب لورو.

ويبدو أن البحوث تؤكد هذا. فقد وجد تشارلز بواسيل، وهو طالب دكتوراه في كلية التجارة في جامعة إتش إي سي في باريس، أن معظم سجلات شركات سيارات الأجرة الصغيرة كانت في “ضواحي باريس الشمالية والجنوبية الشرقية، حيث توجد أقسى الظروف الاقتصادية”.

بعد أن وافقت “أوبر” على الافتتاح الجزئي لقاعدة البيانات لديها، أجرى كل من أوجستين لاندير، الأستاذ في كلية تولوز للاقتصاد، وديفيد تيسمار، الأستاذ في جامعة إتش إي سي، أول دراسة استقصائية تفصيلية لسائقي أوبر في فرنسا. ووفقا للنتائج التي توصلا إليها، والتي تم تقديمها إلى “فاينانشيال تايمز”، العدد الهائل من السائقين من الذكور (98 في المائة)، وهم أصغر سنا بكثير من سائقي سيارات الأجرة الثابتين (70 في المائة منهم تحت سن 40، مقارنة بـ 30 في المائة بالنسبة لسيارات الأجرة التقليدية)، والكثير منهم عانى البطالة (ربعهم كان بلا عمل قبل العمل مع أوبر، وتقريبا نصفهم بقي كذلك لأكثر من عام).

خلافا للسائقين في الولايات المتحدة، الذي يميلون لاستخدام “أوبر” عملا إضافيا، 81 في المائة من السائقين الفرنسيين ليس لديهم أي عمل آخر. ويقول ثلثاهم إنهم يريدون “البدء بمهنة جديدة طويلة الأجل”. ويعمل خمسهم لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع. ويكسب معظمهم 20 يورو في الساعة، أكثر من ضعف الحد الأدنى للأجور.

كويتا، صديق بابا، يقول إنه يستطيع أن يكسب 1700 يورو شهريا بعد خصم المبلغ الذي تفرضه “أوبر”، الذي تبلغ نسبته 20 في المائة، وكذلك الوقود وغيره من التكاليف. وهذا المبلغ هو نفسه الذي يحصل عليه من خلال العمل مديرا لمتجر عمه، الذي تم حرقه عمدا.

يقول البروفيسور تيسمار: “إن أوبر هي من عملت على تغيير اللعبة اجتماعيا. إن البدء بشركة جديدة عادة ما يكون الوسيلة الأفضل للمهاجرين للاندماج. وهذا ما تظهره أوبر: جعلت الأمر أسهل على هؤلاء الشباب لتأسيس شركاتهم. الأمر أكثر فاعلية من أي سياسة حضرية أو إعانات تقدمها الدولة”.

إحداث التغيير

قدرت لجنة من الحزبين، تشكلت في عام 2007 على يد نيكولا ساركوزي، الرئيس السابق المنتمي إلى يمين الوسط، أن افتتاح سوق سيارات الأجرة قد يسفر عن استحداث 35 ـ 45 ألف فرصة عمل إضافية في مجال القيادة في منطقة باريس وحدها.

وهذه المنافسة الجديدة عززت الطلب. ووفقا للمعهد الوطني للإحصائيات والدراسات الاقتصادية، ارتفعت إيرادات القطاع – سيارات الأجرة والسيارات الصغيرة – بنسبة 10 في المائة بين عامي 2010 و2015.

وينبغي أن يكون هذا بمنزلة أنباء جيدة بالنسبة لفرانسوا هولاند، الرئيس الاشتراكي الذي تعهد بكبح جماح البطالة التي بلغت مستويات قياسية، قبل العام المقبل وإلا سيتخلى عن خططه لإعادة ترشيح نفسه في الانتخابات. كما أن الاتجاه يدعم أيضا خطوة من جانب إمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد، تتمثل في هدم حواجز القطاعات المحمية بشكل مفرط بوصفها خطة علاجية لسوق الوظائف المزدوجة في فرنسا. وقال ماكرون: “بالنسبة لكثير من الشباب، العثور على العميل أسهل من إيجاد العمل”.

مع ذلك، وتحت الضغط المفروض من قبل قطاع سيارات الأجرة القوي – الذي رسخت أكبر شركاته “جي 7″، منذ أمد بعيد روابط مع الحزب الاشتراكي – هناك خطط للحد من استخدام “أوبر” وغيرها من منصات سيارات الأجرة.

واعتماد ذلك يعني أن الأشخاص من ذوي السجلات الإجرامية، مثل بابا، لن يتمكنوا من الحصول على ترخيص. ويمنع مقترح السائقين الذين يعملون بموجب ترخيص نقل جماعي من استخدام المنصات، ما يهدد نحو سبعة آلاف فرصة عمل. وتصر الحكومة على أن هذا الوضع ـ المستخدم من قبل معظم السائقين لأن الحصول عليه أرخص وأسرع من الحصول على ترخيص للسيارات الصغيرة ـ يمكن أن ينطبق فقط عند نقل ما بين شخصين إلى تسعة أشخاص، وليس شخصا واحدا فقط.

ويقول توماس كيرزبوم، عالم الاجتماع في كلية المعلمين العليا: “إن نجاح أوبر في الضواحي الفرنسية يمثل استجابة عفوية لعقود من السياسات العامة التي فشلت في مكافحة التمييز واستحداث فرص العمل. والآن، مرة أخرى، نقوم بدراسة التدابير التي يمكن أن يكون لها أثر غير متناسب في السكان الضعفاء بالفعل”. في البلدان حيث يجري جمع الإحصائيات العرقية – فرنسا لا تفعل ذلك – يمكن اعتبار مثل هذه التدابير تمييزية، بحسب كيرزبوم.

ويقدر كل من لاندير وتيسمار أن فقدان سائقي أوبر وظائفهم، يمكن أن يؤدي إلى بقاء أكثر من 20 في المائة منهم بلا عمل لعامين مقبلين.

بالنسبة لفؤاد باداش، رجل الأعمال البالغ من العمر 23 عاما، المولود لأبوين جزائريين، يمكن أن تعمل حملة القمع الأخيرة على الإضرار بأعماله التجارية. وقد يفقد السائقون لديه، البالغ عددهم 30 شخصا جميعهم يعملون بموجب عقود دائمة، وظائفهم لأنهم يستخدمون حالة النقل الجماعي. ويقول إن أحدهم، الذي بلغ 31 عاما ولم يكن قد حصل أبدا على وظيفة مناسبة، جاء إليه وهو يبكي.

ويقول باداش الذي يعيش في أسنيرز – سو – سين، شمالي باريس: “إن الدولة لم تقدم لنا أي شيء أبدا وفي مواجهة كل تلك الصعاب نعمل على استحداث فرص عمل فعلية”.

ويضيف: “الآن يريدون منعنا من النجاح، ويريدون إرجاعنا إلى تلك الضواحي. إن الحكومة لا تدرك أن الوضع خطير. وقد يكون أسوأ من عام 2005”.

التنظيم

تصر الحكومة على أنها تسعى لمنع حدوث تجاوزات في التوسع السريع لقطاع الصناعة. وتقول لورو من “بلانيت آدم”: “لقد ظهرت أشكال جديدة من الاستغلال. بعض السائقين يمكنهم العمل من دون تكون لديهم سيارة أو ترخيص، لكن أحيانا ينبغي لهم العمل بلا توقف ليتمكنوا بالكاد من تغطية التكاليف”.

التمحيص التنظيمي ليس غريبا في فرنسا. في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، أمرت المحاكم بفرض حظر على خدمات أوبر منخفضة التكلفة. وتم اعتقال سائقي أوبر في بروكسل وأمستردام، في الوقت الذي تمت فيه مناقشة القيود في المملكة المتحدة. وقد اشتكت النقابات العمالية من سياسات الشركة تجاه العمال لديها.

في بوبيني، استذكر إسماعيل راخمي، الذي يحضر مع بابا صلاة الجمعة في المسجد المحلي، أنه كان عليه العمل 13 ساعة يوميا لمدة ستة أيام من أجل كسب 1900 يورو شهريا – وهو أجر أقل من الأجر الذي كان يحصل عليه في وظيفته المؤقتة السابقة لستة أشهر في تحميل الشاحنات في شركة تي إن تي. ولأنه لم يكن لديه أي ترخيص أو سيارة، كان يحتفظ بأقل من ثلث كل أجرة.

يقول: “في شركة تي إن تي، كان لدي يومين استراحة أسبوعيا”. وتقدم راخمي للحصول على ترخيص سيارة أجرة صغيرة، لكن ينبغي له الانتظار لفترة أطول الآن بسبب حملة القمع.

وكان قرار أوبر خفض أجور النقل بنسبة 20 في المائة في تشرين الأول (أكتوبر) مؤلما أيضا، بحسب ما يقول السائقون. وكان الضرر الذي تسبب به أكبر من ضرر اعتداءات باريس التي أسفرت عن مقتل 130 شخصا في تشرين الثاني (نوفمبر)، وأدت إلى بقاء الباريسيين في منازلهم.

إن فوئد سيارات الأجرة لدى أوبر تتجاوز المنافع الاقتصادية، بحسب ما يقول السائقون: أنها تعمل على تحسين التماسك الاجتماعي في وقت تحتاج فيه فرنسا، المنقسمة بسبب السكان المسلمين، إلى هذا التماسك بشكل كبير.

يقول جوزيف فرانسوا، الذي يترأس إحدى أكبر شركات السيارات الصغيرة التي يعمل فيها 140 سائقا: “هناك عالمان يلتقيان في النهاية. لديك شباب قادمون من الضواحي ويعملون على نقل محامي باريس من نيولي، وفنانين وأشخاص قادمين من الصين أو أستراليا. فجأة تختفي الحواجز الاجتماعية والأفكار المجحفة. يتكلمون. ويتكون لديهم فهم أفضل لبعضهم بعضا”.

ولدى بعض سائقيه أعلى الدرجات في أوبر، لكنهم لا يناسبون الصورة النمطية للموظف المثالي: أحدهم يغطي الوشم مساحة كبيرة من جسمه وآخر لديه ضفائر.

يقول باداش: “يشعر الأشخاص القادمون من الضواحي الباريسية أنهم موشومون بالعار، ومعظمهم يعاني التحدث بالفرنسية بشكل ملائم، لكن فجأة تجدهم يرتدون بدلة ويقودون سيارة جميلة. إنهم يشعرون بالتقدير”.

رغم ذلك، يبدي بابا قلقه إزاء أثر الأنظمة الجديدة. “إذا فقد عشرة آلاف شخص وظائفهم، لن نكون قادرين على تلبية الطلب. قد ترتفع الأسعار، وقد تطول فترات الانتظار”.

أما بالنسبة للسائقين الذين يمكن أن يصبحوا بلا عمل، فإن بابا يتجاهل أمرهم. “معظمهم سيعود مرة أخرى إلى تلك الضواحي. والعديد منهم سيعود إلى ارتكاب الجرائم”.