سلوى بعلبكي
استنفرت القرارات والاجراءات المالية التي اتخذتها الولايات المتحدة الاميركية والسعودية في حق لبنان، مجتمع رجال المال والأعمال الذي تخوّف من آثارها على البلاد، إلاّ أن آراء بعض الخبراء الاقتصاديين ومؤسسات التصنيف العالمية كانت أقل تشاؤماً، مستندين بذلك الى أرقام ومعطيات اقتصادية. إلاّ أن ذلك لا يعني أنهم مرتاحون الى ما آلت اليه الاوضاع بين لبنان والدول الخليجية على اعتبار أن الاخيرة لها مساهمات عدة على كل الصعد الاقتصادية.
استحوذت القرارات الخليجية الاخيرة على اهتمام وكالات التصنيف والمؤسسات المالية العالمية، فركزت في تقاريرها التي أصدرتها في الايام الاخيرة على انعكاساتها على الاقتصاد اللبناني. فقد اعتبرت وكالة Moody’s Investors Service أن القرار الذي اتخذته حكومات مجلس التعاون الخليجي بتحذير مواطنيها من السفر إلى لبنان سيكون له تأثير محدود على أوضاع المالية العامة والميزان الخارجي في لبنان. ورغم أن هؤلاء يمثّلون غالبية الوافدين إلى لبنان، فقد أشارت إلى أن عددهم تراجع منذ 2011 بسبب الأوضاع الأمنية المحلية، وكذلك نتيجة انقطاع الطريق البرّية عبر سوريا. إلاّ انها حذرت في المقابل من أن تصاعد التوترات يمكن أن يؤثر سلبًا على المغتربين اللبنانيين الذين يقيمون ويعملون في دول الخليج، وذلك في حال تجميد إصدار تأشيرات العمل الجديدة للبنانيين.
هذا الأمر أكدته وكالة “ستاندرد أند بورز” التي اعتبرت أن هذه القرارات ستكون لها تداعيات خفيفة على فئة من المودعين في القطاع المصرفي، وذلك مقارنة بالفترات السابقة التي شهدت خضّات أمنية وتحديداً عندما اغتيل رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 2005 واندلاع الحرب الاسرائيلية على لبنان في تموز 2006.
من جهته، رسم معهد التمويل الدولي سيناريوين للمشهد اللبناني: الأول توقع فيه أن ينمو النشاط الإقتصادي بـ2,3% في 2016 وبـ4,5% في 2017 في حال تراجع التوترات الإقليمية، وانتخاب رئيس للجمهورية في النصف الأول من هذه السنة، وتحسّن العلاقات بين لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي، وتجاوز الأموال المخصصة للبنان من المجتمع الدولي لمساعدة اللاجئين السوريين بمبلغ 400 مليون دولار، أو ما نسبته 0,8% من الناتج المحلي الإجمالي.
اما في حال سارت الأمور عكس السيناريو الأول، فإنه من المتوقع وفق الوكالة أن ينمو الاقتصاد بنسبة 0,8% في سنة 2016 و0,3% في 2017.
المعطيات الاقتصادية لا تبرّر المخاوف
لم تختلف نظرة المؤسسات الدولية عن نظرة الخبراء الاقتصاديين كثيراَ. إذ لم ينفَِ النائب السابق لحاكم مصرف لبنان والخبير الاقتصادي غسان عياش الآثار الاقتصادية السلبية التي قد تصيب كل لبنان نتيجة الجبهات المتفجّرة بين “حزب الله” ودول عربية وأجنبية، لاسيما الخليج العربي والولايات المتحدة الأميركية. إلا أنه ورغم تأكيده أن الحذر واجب والمعالجة الوقائية بالغة الضرورة، لم يجد عياش أي مبرر للهلع أو الخوف من انهيار اقتصادي وشيك، وخصوصاً على الصعيد النقدي.
ويميز عياش بين الحالتين الخليجية والأميركية. فالتدابير التي اتخذتها الدول الخليجية أثارت نوعاً من القلق في لبنان. وهذا أمر مفهوم برأيه، نظراً الى ارتباط الاقتصاد اللبناني قبل أكثر من 8 عقود باقتصادات الخليج عموماً والاقتصاد السعودي خصوصاً. إلاّ أن الأمر غير المفهوم من وجهة نظره هو “الخوف الذي انتشر في بعض أوساط الرأي العام من أن تؤدّي الأزمة الناشئة مع السعودية والخليج إلى تهديد النظام المصرفي أو سعر صرف الليرة اللبنانية، لأن المعطيات الاقتصادية لا تبرّر هذه المخاوف على الإطلاق. فالودائع الخليجية في مصرف لبنان تقلّ عن مليار دولار، بعدما سدّد المصرف تدريجياً قسماً من هذه الودائع. وهذا المبلغ تقابله احتياطات تاريخية لمصرف لبنان تصل إلى 38 مليار دولار. وتالياً، رغم أن السلطات السعودية والخليجية لم تفاتح المصرف المركزي برغبتها في سحب هذه الودائع، لكن إذا اتخذت هذا القرار يستطيع مصرف لبنان تلبية طلبها من دون أي صعوبة”.
هذا الأمر إستبعدته ايضاً “ميريل لينش”، لا بل رجّحت أن تعمد السلطات السعودية الى إعادة تجديد هذه الودائع، على افتراض أن التوترات الثنائية بين البلدين لن تشتدّ. ولا يتخوّف عياش من سحب الودائع الخليجية من المصارف اللبنانية، “رغم أننا لم نسمع بهذا التدبير الذي يعود القرار فيه إلى القطاع الخاص الخليجي وليس إلى الحكومات. فهذه الودائع محدودة قياساً بمجموع ودائع القطاع المصرفي اللبناني التي بلغت في آخر العام المنصرم 155 مليار دولار، فيما بلغت موجوداته 185 مليار دولار”.
ولكن ذلك لا يعني وفق ما يقول عياش “أننا نستطيع أن “نبلع” أو نهضم ببساطة حصاراً اقتصادياً خليجياً على لبنان. فازدهار لبنان الاقتصادي بني بنسبة كبيرة منه، على قرب لبنان من الخليج وتفاعله اقتصادياً معه. وإذا كانت ودائع الخليج المصرفية في لبنان محدودة فإن وديعة لبنان البشرية في الخليج كبيرة جداً ومهمّة، ويعني عياش بذلك “الـ 500 ألف لبناني الذين يعملون في بلدان مجلس التعاون، ونصفهم في السعودية”. الى ذلك، يعوّل لبنان على السعودية والإمارات وسائر بلدان الخليج كمقصد لأكثر من ربع الصادرات اللبنانية ومصدر للسيّاح والتدفقات النقدية من اللبنانيين العاملين هناك، والتي تصل إلى 5 مليارات دولار تقريباً. يضاف إلى ذلك الاستثمارات الخليجية المباشرة التي بلغت قبل عام ونيف نحو 30% من مجموع الاستثمارات الخارجية في لبنان، رغم الظروف المحلية والإقليمية غير الملائمة”.
وفي الانتقال إلى الإجراءات الأميركية ضد تمويل “حزب الله”، المثبتة بقانون ينتظر اللوائح التنفيذية ليبدأ تطبيقه، يشير عياش إلى أن “الولايات المتحدة، وضمنها مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل، فتحت معركة متصاعدة لوضع القيود على تمويل “حزب الله”. ويعتبر أن “المصارف اللبنانية لا تملك أي وسيلة للضغط أو المقاومة، ولا خيار أمامها إلاّ تطبيق تعليمات الدوائر الأميركية حيال بعض العمليات أو الحسابات”.
ورغم النجاح الذي قيل أن الوفد النيابي حقّقه في واشنطن، وقد كانت زيارته مهمّة على أي حال وفق ما يقول عياش، إلاّ أنه يستبعد “أن يكون الوفد قد تمكن من إقناع الأميركيين بتخفيف الإجراءات المالية ضد “حزب الله”. لقد سعى الوفد على الأرجح، وهذا وحده متاح، إلى عدم تحويل هذه الإجراءات إلى نوع من الضغوط أو العقوبات على لبنان بأسره”.
لا خروج للودائع
لم يرصد رئيس قسم البحوث والتحاليل الاقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس نسيب غبريل مؤشرات تدلّ على تراجع التعاون بين القطاع الخاص اللبناني ونظيره الخليجي وتحديداً السعودية، كون هذه العلاقات مبنية على مصالح مشتركة.
ويشدد غبريل على سلامة الوضعين النقدي والمصرفي، وأن الحركة طبيعية في سوق القطع، ولا ضغوط على سعر صرف الليرة اللبنانية، عازياً الطلب على الدولار الأميركي لأسباب تجارية. وإذ لفت الى أن حجم ودائع القطاع الخاص بلغ 152 مليار دولار في كانون الثاني من سنة 2016، أي ما يساوي ثلاث أضعاف حجم الاقتصاد، منها 32 ملياراً ودائع لغير المقيمين معظمها للبنانيين في دول الاغتراب، أكد أن هذه الودائع لن تخرج من لبنان.
وفي حين لم يعوّل كثيراً على امكان تراجع عدد السيّاح الخليجيين، كون نسبتهم تراجعت من 20% من مجموع السيّاح الوافدين الى لبنان في 2009 الى 7% في الـ2015. حذّر من الاستخفاف بقرارات دول مجلس التعاون الخليجي، إذ أن هذه الدول هي شريان حيوي للاقتصاد وتعريض مصالح اللبنانيين العاملين في هذه البلدان للخطر سيطاول الاقتصاد كالآتي:
– شكّل الوافدون اللبنانيون ومواطنون من السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر 39% من الإنفاق السياحي في لبنان في 2015.
– تعتبر هذه الدول إضافة الى الولايات المتحدة الأميركية- مصدر 65% من تحويلات المغتربين الى لبنان، بمعدل بلغ 7.2 مليارات دولار سنوياً بين 2008 و2014 مقارنة بـ6.6 مليارات دولار سنوياً للعائدات السياحية و3.9 مليارات دولار سنوياً لعائدات الصادرات و3.8 مليارات دولار سنوياً للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
– بلغ حجم الاستثمارات المباشرة الخليجية الموظفة في المشاريع الجديدة في لبنان Greenfield foreign direct investment المحققة بين عامي 2003 ومنتصف 2015 نحو 11.2 مليار دولار في مختلف القطاعات، منها 1.840 مليار دولار استثمارات من السعودية، وملياري دولار استثمارات مصدرها الكويت، و7.3 مليارات دولار استثمارات من الإمارات العربية المتحدة.
هذه التوظيفات تمثل 76% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الإجمالية Greenfield foreign direct investment في لبنان في الفترة عينها. لذا لا يرى غبريل أنه من السهولة الخروج من هذه الاستثمارات الموظفة على آماد طويلة، وهي تأسست بناء على دراسات جدوى اقتصادية وآفاق القطاع المستثمَر فيه، ومستندة إلى عوامل موضوعيّة وعلميّة، وتختلف عن التوظيفات في الأسهم والسندات التي يسهل الانسحاب منها. واعتبر أن الخروج من هذه الاستثمارات يعود إما إلى التباطؤ في القطاع المعني أو في الاقتصاد أو لأنها غير مربحة أو غير واعدة أو بسبب الخلافات بين المساهمين. ولكنه نبّه الى التراجع المستمر في تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة الى لبنان بسبب ارتفاع الكلفة التشغيلية من جرّاء تردّي بنية الخدمات الأساسية، والتباطؤ في تطوير البنى التحتية والتشريعية، فضلاً عن ضعف أداء الإدارة العامة وتراجع مستوى تنافسية الاقتصاد اللبناني، يُضاف إليها تأزم الوضع السياسي المحلي وتداعيات الأزمة السورية.