ورفض مقولة ان المصارف المركزية تدخل في هكذا عملية (حرب عملة) من اجل تحسين اقتصادها ودفع نموها وتحقيق مكاسب تجارية. لكن يبدو انه بعد تعاون عالمي وثيق نتيجة الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في العام ٢٠٠٨ بدأت المصالح الوطنية تفلرض ايقاعها. والبرهان على ذلك قد يكون السياسات العدوانية التي اتبعها البنك المركزي الاميركي لدعم الانتعاش الاقتصادي الاميركي.
بالتأكيد، لم يكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الوحيد في اتباع هكذا سياسات عدوانية في السنوات الاخيرة انما وحسب بن برنانكي ومدونته الأخيرة ان الدور الذي يلعبه الدولار الاميركي في التجارة العالمية والنفوذ المالي له يجعل من خطوات الفيدرالي مهمة للغاية وآثاره الاقتصادية جديرة بالاهتمام.
وللعلم، «حرب العملات» تعني فيما تعنيه تسهيل السياسة النقدية من اجل خفض سعر صرف العملة وبغية تحقيق الهدف النهائي المتمثل في ترخيص الصادرات واكتساب ميزة تنافسية غير عادلة في التجارة الدولية وهذه العملية معروفة عالميا بما يسمى «افقار الجار».
هذه العملية لها سوابقها عالميا وليست بالجديدة وتعود بتاريخها الى فترة الكساد العالمي والعام ١٩٢٠ مع انهيار معيار الذهب، ومع الدول التي تركت الذهب في وقت مبكر نسبيا مثل بريطانيا العظمى عام ١٩٣١ وفرنسا التي تركت المعيار هذا لاحقًا في العام 1935 والذين استطاعوا من خلال هذه الخطوة الانتعاش والخروج بصورة اسرع من ويلات الكساد.
هكذا نرى اليابان ومعها اوروبا يحاولون جاهدين محاربة ركود الاقتصاد بخفض قيمة عملاتهم مقابل العملات الرئيسية الاخرى. وسوف تزيد اسعار الفوائد السلبية في اليابان من احتمال لجؤ المركزي الاوروبي الى معدلات سلبية اكبر والرسالة واضحة للمدخرين: توقفوا عن الادخار وباشروا في الانفاق.
لذلك تتوقع الاسواق وبوضوح ان يتحرك ماريو دراغي في اجتماع المركزي الاوروبي هذا الشهر لزيادة عملية التيسير الكمي والولوج في فوائد سلبية اكثر سيما وان عائدات السندات الالمانية لمدة سنتين انخفضت انخفاضا قياسيا نحو ناقص ٠،٥٠ بالمائة مؤخرًا.
وتصعيد حرب العملات ليس مستبعدا سيما مؤخرا مع اعلان شركة النفط الوطنية الايرانية انها تريد استخدام اليورو مكان الدولار في مبيعات النفط والتقليل من اعتمادها على الدولار الاميركي.
لذلك السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل نحن في خضم حرب العملات سيما وان عمليات التيسير الكمي والفوائد السلبية ابرز براهين على سعي الدول لخفض قيمة عملاتها من اجل انعاش وتحفيز اقتصاداتها ولجم الانكماش؟
الجواب هو ان هذه السياسات والتي بدأت في الولايات المتحدة في العام ٢٠٠٨ وتبعتها الدول الاخرى (اكثر من ٢٠ دولة لديها اسعار فوائد منخفضة) تجعل من الصعب تجاهل حرب العملات وتؤكد على ان حرب العملات قد تكون اندلعت مع كل ما يتأتى عن ذلك من منافسة غير شرعية وفي ظل عالم اقتصادي يحاول جعل العملات سلاحا اساسيا من اجل محاربة التراجع الاقتصادي الحاصل، ويثير مزيدا من التعقيدات في ظل نظام صرف متحرك، وعكس ما كان عليه سعر الصرف سابقا.
اذا كانت بعض العملات تتأرجح صعودا ونزولا سيما في السنة الاخيرة، يبقى ان الدولار ما زال يمثل ما لا يقل عن ٦٠ بالمائة من احتياطات العملات العالمية، وقد لا تكون التحركات الاخيرة لبعض الدول لتحلّ محل الدولار الاميركي فاعلة في المدى القريب.
لذلك تبدو الصورة واضحة للمحللين والاقتصاديين في العالم في ظل تسابق الدول الى خفض فوائدها وزيادة ضخها للنقود، انما تبقى العملية ونتائجها نسبية الى حد ما، سيما وان سياسة نقدية سهلة قد تزيد الصادرات وتخفف من الواردات كذلك تخفف اسعار الفوائد مما ينعكس على الطلب المحلي والعمالة والدخل، كذلك ارتفاع الدخل يساعد في زيادة الواردات مما يعني ان هكذا سياسات تعمل في اتجاهات معاكسة، ويعني فيما يعنيه انه وان كانت هناك حرب عملات تبقى نتائجها محدودة ونسبية، وحسب ديناميكية الاقتصاد في الدول.