مايا ياغي
تجارة البناء تلقى رواجاً كبيراً، لكنها تغيّر سمات منطقة بأكملها، من مصيف جميل هادئ إلى مبانٍ متلاصقة متراصّة بعضها فوق البعض، تعبأ بثقلها الطريق العام، من أول بلدات شرق صيدا، وصولاً إلى بلدات إقليم التفاح: كفرفيلا، جباع، جرجوع وعين بوسوار.
منطقة مغرية للاستثمار
بعد إنشاء معلم مليتا، تحوّلت المنطقة مقصداً سياحياً من كل الأقطار، وأصبحت معروفة لدى كثيرين من أبناء الجنوب، الذين بدأوا يبحثون عن أراضٍ لشرائها أو شقق جاهزة ليسكنوا فيها، طمعاً بالمصيف الجميل الهادئ، بين أشجار الصنوبر البري وينابيع المياه الغزيرة. من أجل تلبية هذا الطلب توجّه العديد من أصحاب رؤوس المال للاستثمار فيها، حيث سعر الأرض المتدنّي والطلب المتزايد على السكن يؤدي الى ضخ الأموال في هذه البلدات، فتكاثرت المباني تكاثرا ملحوظا، وانتشرت المحال التجارية على جانبي الطريق، وتمدّدت الأسواق، ولم تعد هناك حاجة للذهاب إلى صيدا أو النبطية، فكل الحاجات الأساسية والكمالية باتت في متناول الجميع بأسعار تنافس أسعار المدينة وأقل.
هذا التحوّل السريع في النمط العمراني لهذه المنطقة، تقول غيداء المير، مهندسة معمارية من بلدة كفرملكي سببه «أن تجارة المباني السكنية أو المقاولات تربح ثلاثمئة في المئة، وهي سريعة النتيجة، فالكثير من الناس يشترون الشقق ويدفعون الدفعة الأولى حتى قبل بنائها»، ولهذا أثارت هذه التجارة غيرة المستثمرين وبدأت المنافسة، بأسعار مشجعة، تقسيط مريح، شقق سوبر دوليكس، في ظل انخفاض قدرة المواطن على بناء منزل خاص به، ما دفعه للتوجه إلى هذه الحلول السريعة». كما يؤكد علي حجازي، مقاول من بلدة كفربيت، أن «هذه التجارة تقدّم المنفعة للتاجر وللمشتري معاً، العقار «بيمرض بس ما بيموت»، جربت العديد من المصالح الأخرى، لكنها لم تنجح في هذه المنطقة، بحيث يصبح الهدف الأول هو الاستمرار وليس الربح، لذلك استثمرت في مجال البناء لضمان عدم الخسارة، وبنيت في بلدتي أكثر من أربعة مشاريع سكنية، تراعي كلها الطابع العمراني الجميل وتخلو من المحال التجارية، وفيها مواقف سيارات وحدائق وآبار ارتوازية».
يبقى عزوف الكثيرين عن بناء منازل خاصة وشراء شقق جاهزة سببه الوضع الاقتصادي السيئ، تقول رشا كربلا: «إن سعر المتر في هذه البلدات، الذي يتراوح بين 650 و750 دولاراً، يشكل حلاً بديلاً لكثيرين من الشباب، الذين تركوا السكن في بيروت، وعادوا إلى بلداتهم، ليتحمّلوا مشقة الذهاب والإياب اليومية إلى عملهم في العاصمة، أما بناء منزل مستقل في أرض خاصة فهو حلم للجميع يحتاج لكثير من المال ليتحقق بالنسبة لهم».
حاجة البلدات لهذه المشاريع متفاوتة ولا تتناسب مع تصنيف التنظيم المدني لها، فالمناطق التي يُسمح البناء فيها بنسبة 30 في المئة ويُسمح بثلاثة طوابق أو أكثر، تراها مزدحمة بالأبنية كيفما كان، بشكل عشوائي، والمناطق الأخرى التي تصنّف زراعية تجدها مهجورة إلا من الأشواك الكبيرة والصلبة، تضيف المهندسة غيداء المير: «إن عدم دراية المستثمر بالأسباب والظروف التي تسمح بنجاح مشروعه، وأهمها الوجه الجمالي المعماري للبناء، هو سبب فشل الكثير من المشاريع واضطرار أصحابها لبيعها بأسعار أقل من المعتاد، لأن المستثمر يبحث عن استغلال كل المساحات المتاحة من دون مراعاة، كموقف السيارة وحديقة صغيرة، وحديقة أو ملعب للأطفال على حساب عدد الشقق والمحال التي يمكنه بيعها».
هذه الفوضى سببت لبلدة كفرحتى مشكلة في مرور السيارات على الطريق العام، لأن معظم المباني تلاصق الطريق وسيارات سكانها تُركن على جانبيها، ما يعيق مرور سيارتين معاً… وهذا هو الحال في بلدة المجيدل، «لكن بعض البلدات النائية قليلاً، كالقريّة وكفرشلال تراعي البلدية فيها مجموعة اعتبارات في إعطاء رخص للمشاريع السكانية التي تقتصر على أهلها، لأنها ما زالت مغلقة أمام الاستثمارات من خارجها، ما يساعدها على ضبط شكل ونوع الاستثمار»، يقول حسين عباس حمدان وهو وسيط لبيع العقارات، مؤكداً أنه كلما كانت شروط البناء أفضل من حيث الشكل والموقع، ارتفع سعر المتر للمبيع. بلدات كفرملكي جباع وعين بوسوار تشهد نهضة عمرانية غير مسبوقة، علماً أن معظم الشقق لم تبع حتى اليوم، لكن أصحاب المشاريع يعتمدون على إيجارات المغتربين في فصل الصيف وعلى شباب البلدة والنازحين السوريين. أمام هذا التمدد المخيف للمساحات الإسمنتية، قامت بلدية كفرملكي ببعض الحلول، يقول نائب رئيس البلدية فؤاد المير: «نقابل هذا الواقع بزراعة المساحات المهملة في المشاعات وإنشاء محميات طبيعية حتى نعيد التوازن لهذه المنطقة، لكن ما يُقطع بيوم واحد يحتاج لعشرات السنين لكي ينمو ويعود لاخضراره من جديد»، مؤكداً ان «هذه المشاريع تلقي بثقلها على البنى التحتية، خصوصاً الكهرباء، ولكن مصلحتي مياه لبنان الجنوبي ومؤسسة كهرباء لبنان تواكبان المستجدات في هذه البلدات».
على حساب الريف
لقد غيّرت المشاريع السكنية المشهد في هذه البلدات، من القصور الفخمة بالغة الجمال والدقة تعلوها سقوف القرميد الأحمر الفرنسي وتزين حدائقها التماثيل والمنحوتات، إلى مبانٍ متلاصقة مزدحمة تكاد تختنق لولا نسمات الهواء في منطقة تتميز بصفاء مائها وهوائها وناسها. لقد تغيّر وجه الريف وسُرقت منه تلك الهالة العذرية للطبيعة الأم، وأصبح العديد من الأحياء يشبه المدينة، ولم يبق في الساحات سوى بعض المنازل المتهدمة ذات الدرجات العريضة والكثيرة، لتذكّر الناس أنهم يعيشون في أرياف هجرتها وتصحّرت البساتين، وذبل ياسمينها، وماتت نصوب التين والزيتون والعنب وكله بهدف الربح السريع الذي لا يستثني مرجاً أخضر أو معلماً أثرياً.