جاسم عجاقة
لا تنفك الأزمة الإقتصادية التي يتخبط بها لبنان كما وغياب موازنة عامة، في زيادة العجز وبالتالي الدين العام. إلا أن محاولة إيجاد حلّ للمالية العامة يمرّ إلزامياً بخطة إقتصادية محورها الإستثمارات، وكل حلّ لا يتضمن رفع الإستثمارات سيبقى حبراً على ورق.
بلغ عجز الموازنة 3.5 مليار دولار في العام 2015. وهذا الرقم كان ليكون أكبر من ذلك بكثير لولا “نعمة” إنخفاض أسعار النفط التي خففت من ثقل مؤسسة كهرباء لبنان على الخزينة. وإذا كان إجمالي النفقات قد إنخفض بنسبة 6% إلا أن الواردات تراجعت بنسبة 11.4% معززة بذلك العجز الذي تُسجّله خزينة الدولة منذ عقود. ويبلغ مجموع العجز في الخزينة منذ العام 2004 وحتى العام 2015 ما يوازي 35.2 مليار دولار أي نصف الدين العام اللبناني. من هنا نرى ميكانيكية العلاقة بين العجز في الموازنة ومستوى الدين العام والذي من المُتوقع وبغياب أي خطة إقتصادية لتحفيز النمو، أن يفوق الـ 100 مليار دولار في السنين القادمة. أضف إلى ذلك دين القطاع الخاص البالغ 54 مليار دولار ما يعني أن الدين الإجمالي للبنان سيصبح بموازاة ودائع القطاع المصرفي.
نعم هذه الحسابات وللأسف هي حسابات صحيحة تعكس مدى تآكل الماكينة الإقتصادية التي أصبحت عاجزة عن إمتصاص العجز بحكم أن الميزان الأولي لم يعد يستطيع تغطية خدمة الدين العام وبالتالي فإن التوازن المالي للدولة اللبنانية أصبح غير موجود وبدأت عملية الصعود الإسّي (Exponential) للدين العام. وتنص المعادلة الحسابية للتوازن المالي على أن “سندات الخزينة (أو زيادة الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام” ، وهذا يعني أنه وبغياب مداخيل كافية من الماكينة الإنتاجية تعمد الدولة إلى إصدار سندات خزينة. وهنا نرى أن التوازن المالي يتأثر بعاملين أساسيين: سياسة الديون للسنين الماضية مما ينعكس في خدمة الدين العام، ووضع الإقتصاد الحالي في الدورة الإقتصادية. وهذان العاملان هما في أسوأ حالهما في تاريخ الجمهورية اللبنانية إذ أن خدمة الدين العام أصبحت عبئاً ثقيلاً على الموازنة من ناحية أنها توازي ثلث المدخول ومن ناحية أخرى فإن الوضع الإقتصادي المُتردي يُعاني تآكلاً بنيوياً نتيجة غياب الإستثمارات.
لكن المُشكلة تكمن في الدرجة الأولى في أن زيادة حجم الإصدارات وبالتالي الدين العام يحرم القطاع الخاص من التمويل نظراً إلى الأفضلية التي تُعطيها المصارف اللبنانية للقطاع العام على حساب القطاع الخاص (مشكلة ملاءة). وبالتالي نستنتج أن السلوك المُعتمد في مالية الدولة والذي ينص على تمويل العجز بواسطة الدين العام له تداعيات سيئة على الإستثمارات وبالتالي فرص العمل ما يعني إنخفاض النمو الاقتصادي.
الإستثمارات هي أساس في النمو الإقتصادي، ولا يروي التاريخ أن إقتصاداً نما من دون إستثمارات وبالتالي على الدولة اللبنانية وقف وتيرة زيادة الدين العام وتحفيز النمو الإقتصادي لإمتصاص العجز في الموازنة تحت طائلة الهلاك المالي.
تُظهر البيانات التاريخية التابعة للإقتصاد اللبناني والآتية من البنك الدولي، أن العلاقة بين الإستثمارات والنمو هي علاقة ميكانيكية. فإرتفاع الإستثمارات الأجنبية المباشرة في أعوام المجد (2007-2010) تمّت ترجمتها بنمو فاق الـ 8% لإستثمارات بقيمة 4.5 مليار دولار تقريباً. إلا أن هذه العلاقة ليست خطّية (Linear) أي أن إنخفاض الإستثمارات إلى 3 مليار دولار في العام 2012 إلى 2014 لم يوازيه نمو بنفس النسبة. وهذا الأمر طبيعي من ناحية أن الماكينة الإقتصادية اللبنانية تفتقر إلى الإستثمارات وبالتالي بدأت بالتآكل. وهنا يُمكن الإستنتاج أن الإستثمارات تلعب على مستويين: الأول مُتعلق بالقدرة الإنتاجية التي تزيد حكماً بزيادة رأس المال والثاني مُتعلق بسوق العمل الذي يسمح بفعل العمالة العالية إلى زيادة الإستهلاك. وبما أن الإقتصاد هو كيان برجلين: الإستثمار والإستهلاك، فإن غياب أحدهما ينمع النمو الإقتصادي أو يحدّ منه على الأقل تماماً كرجل أعرج.
لم تستطع الحكومة اللبنانية وضع الأصبع على الجرح، بل وحده حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فهم اللعبة الإقتصادية وأخذ بوضع برامج دعم لقطاعات واعدة مثل التكنولوجيا وإقتصاد المعرفة. لكن هذه القروض الإستثمارية تحتاج إلى إطار تشريعي وإداري وحدها السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية قادرة على القيام به بحكم الصلاحيات المعطاة لها من قبل القانون.
من هذا المُنطلق يتوجب على الحكومة اللبنانية تسليط إجراءاتها الإقتصادية على شقين: الإستثمارات وخلق فرص عمل. وهذا الإجراءات تتمحور حول دعم القروض الإستثمارية، جذب الإستثمارات بواسطة الأداة الضريبية، تحفيز سوق العمل للبنانيين عبر الأداة الضريبية، وحماية هذا السوق من مضاربة العمالة الأجنبية.
إن هيكلية الإقتصاد اللبناني التي أصبحت هيكلية شبه ريعية تعتمد على أموال المُغتربين، العائدات المصرفية، عائدات العقارات وغيرها من العائدات المالية، لا تسمح بنمو مُستدام. فقد أظهرت الأزمة التي تمرّ بها العلاقات اللبنانية – الخليجية مدى هشاشة هذه الهيكلية. من هذا المُنطلق يتوجب على لبنان دعم الإستثمارات في القطاعين الأولي والثانوي أقله لسدّ حاجة السوق الداخلي، إذ لا يُعقل أن لبنان يستورد 80% مما يستهلك! لأنه بذلك أصبح لبنان يستدين الأموال بهدف الإستهلاك وهذا الوضع لا يدخل في مجال نظريات العلوم الإقتصادية وبالتالي لا يُمكن تسميته إقتصاداً.