تحاول الدولة الليبية البحث عن حلول لأزمة السيولة النقدية التي يعيشها قطاعها المصرفي لتفادي شبح الإفلاس، خاصة بعد تراجع إيراداتها المالية بسبب تواصل الانقسام السياسي وتفاقم الوضع الأمني. وضع أثر سلبا على القطاعات حكومية والمؤسسات الإنتاجية في البلاد وكذلك على الأوضاع المعيشية للمواطنين.
تدهور الأوضاع الأمنية ساهم بدرجة أولى في تعطيل عمل الجهاز المصرفي حسب سعيد رشوان الخبير مالي والاقتصادي الليبي، وهو ما أدى إلى شلل في المعاملات النقدية خاصة بعد أن قام العديد من المواطنين ورجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال خلال الأشهر الأخيرة بسحب مدخراتهم من البنوك والاحتفاظ بها خارجا في بيوتهم.
وقدرت البيانات الأخيرة للبنك المركزي بطرابلس الأموال المتداولة خارج القطاع المصرفي بـ24 مليار دينار أغلبها يكتنزها رجال الأعمال وذلك بسبب عمليات السحب الضخمة وغير المسبوقة للودائع المالية.
وأضاف رشوان في تصريح لـCNN بالعربية أن انخفاض السيولة التي في التداول المنظم إلى من اقل من مليار ونصف دينار فقط من حجم الكتله النقديه البالغه أكثر من ستة وعشرين مليار، ناتج عن فقدان ثقة المواطن في خدمات بنوكه بسبب عدم وجود أمن في المصارف إضافة إلى خوف رجال الاعمال من الكشف عن حساباتهم وتسريبها إلى الخارج وهو ما قد يعرضهم للابتزاز والاختطاف من قبل المليشيات المسلحة.
واتجه عدد من المواطنين في كافة المدن الليبية في الفترة الأخيرة إلى سحب أموالهم من المصارف، وفضلوا الاحتفاظ بها خارجا، نتيجة ضبابية المشهد وعدم وضوح الرؤية بشأن مستقبل التوازنات المالية ودور الدولة وبشأن استعادة الاستقرار السياسي والأمن في الأجل القصير من عدمه.
عابد البوعتيق أحد تجار مدينة مصراتة، اعتبر أنه أصبح يخاف على أمواله من السرقة في المصارف بسبب غياب الأمن إضافة إلى أنها لا تقدم فوائد لهم قائلا : “ما فائدتي أنا من ترك أموالي بالبنك، السرقات تتم يوميا والفساد مستشرٍ داخل المصارف ولا يوجد هناك أي ضمانات، إنهم معي في مأمن وفي أي وقت أحتاج إلى نقود أجد، هذا هو الوضع”.
وبالتوازي مع ذلك اعتبر سعيد رشوان أن تراجع إيرادات الدولة بنحو حاد بعد إقفال عدد من الموانىء وحقول النفط بسبب الاشتباكات وفقدان المصرف المركزي لاستقلاليته بفعل تدخل السياسيين وكذلك المليشيات في عمله، أدى كذلك إلى هذا العجز غير المسبوق الذي تعيشه الدولة والليبيين في الميزانية العامة إضافة إلى ارتفاع سعر الدولار الذي وصل في السوق السوداء إلى 4.8 دينار ليبي.
ويواجه الاقتصاد الليبي منذ أكثر من سنتين مجموعة من المصاعب في ظل وجود حكومتين ومصرفين مركزيين وتواصل الاضطرابات السياسية وتصاعد الصراع المسلح الداخلي وتنامي الإرهاب، إضافة إلى تواصل المشكلات والعوائق أمام عمل الحكومة الجديدة التي تم تشكيلها ومازال الجدل يحوم حول تركيبتها.
وفي ظل هذا الوضع المتأزم، تحاول السلطات الليبية حل أزمة السيولة النقدية لتفادي الإفلاس عبر جملة من الإجراءات، حيث أعلن المصرف المركزي في طرابلس الأسبوع الماضي عن رصد مبلغ 2 مليار دولار لتغطية الاعتمادات المستندية في السلع الأساسية والأدوية فقط خلال شهر مارس.
وكشف عصام العول مدير الإعلام بالمصرف لـCNN بالعربية أن تغطية هذه الاعتمادات ستكون من أرصدة ليبيا في الخارج بسبب تعذر توفير الدولار داخل ليبيا نظرا للحظر الدولي المفروض عليها منذ سنة 2013 بعد حادثة سرقة البنك المركزي بسرت، مشيرا إلى أن أزمة السيولة يمكن أن تنتهي إذا تم إعادة إيداع فقط عشرة بالمائة من الأموال المتداولة خارج البنوك إلى المصارف.
وأضاف كذلك أنه سيتم تفعيل منظومة الدفع الإلكتروني بالأسواق والمحلات وكذلك خدمة الحوالات السريعة الخاصة بالدراسة والعلاج بالخارج على النفقة الخاصة وذلك من خلال الضوابط والاجراءات التي تم وضعها من قل المصرف المركزي، مشيرا إلى أن هذه الإجراءات من الممكن أن توفر السيولة اللازمة في الأيام القادمة.
في المقابل يرى سعيد رشوان أن حل مشكلة أزمة السيولة تبدأ بضرورة النص على استقلالية المصرف المركزي من كل التجاذبات السياسية ومنع الأطراف السياسية والمليشيات من التدخل في عمله ووضع يدها على أموال الدولة، إضافة إلى دعوة الخبراء الماليين والمصرفيين الليبيين من داخل وخارج الوطن والذين لديهم تجارب سابقة في إدارة الأزمات والسماح لهم بإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإعادة السوق الليبي إلى توازنه وإعادة ثقة المواطن بمؤسسات دولته.
وأنهكت أزمة السيولة المستمرة كاهل المواطنين الليبيين الذين تأخرت مرتباتهم وهو ما أثر على ظروفهم المعيشية وقدرتهم الشرائية، فمحمد المسلاتي موظف بشركة الكهرباء لم يستلم راتبه منذ شهر ديسمبر الماضي، ممّا عمّق من معاناته وجعلته عاجزا عن توفير الحاجيات الأساسية لعائلته وأجبره على بيع بعض من ممتلكاته الخاصة لتسيير حياته وفي بعض الأحيان يلجأ إلى الاقتراض من أصدقائه أو بعض أفراد عائلته.
وأضاف في تصريح لـCNN بالعربية أنه أصبح يعتمد على سياسة التقشف داخل الأسرة من خلال الاكتفاء بشراء المواد اللازمة فقط التي تضاعفت أسعارها، وقام باتباع سياسة استهلاك جديدة للحد من المصاريف إلى حين توفير السيولة النقدية واستلام مرتباته.
هذه الأزمة التي يعاني منها آلاف الليبيين خاصة من الموظفين امتدت لتشمل المؤسسات الحكومية والخدماتية التي حذّرت من إمكانية توقف نشاطها إذا ما تم توفير السيولة النقدية اللازمة في أقرب وقت ممكن، على غرار المؤسسة الليبية للنفط التي أعلنت أن تفاقم الأزمة داخلها وتأخر صرف رواتب عمالها قد يجبرها على عدم المواصلة في الإنتاج وهو ما سيؤثر على باقي مؤسسات الدولة التي تعتمد موازنتها بشكل رئيسي على الإيرادات المتأتية من النفط.