IMLebanon

اهتمام مصرفي متزايد بالمسؤولية الاجتماعية وحماية المستهلكين: مبادرات «المركزي» والبنوك تتقدّم

Banque-du-Liban-2

مع ارتفاع منسوب الاهتمام عالمياً بمسألة حماية المستهلكين بعد تفجّر الأزمة المالية العالمية سنة 2008، واستمرار تداعياتها فصولاً حتى اليوم من دون أفق على استعادة الاقتصاد العالمي انتعاشه في المدى المنظور، لاحظ تقرير صادر عن جمعية المصارف أن وضع القطاع في لبنان ما زال دون المتوسط العالمي بالنسبة لدورها في المسؤولية الاجتماعية، والسبب أن هذا المفهوم لا يدخل ضمن الاستراتيجية الشاملة لعدد كبير من المصارف، مع أنه لم يعد خياراً إنما استثماراً على المدى الطويل.

لكن التقرير يؤكد في الوقت نفسه على عدد من المبادرات التي أطلقتها المصارف في هذا الإطار، كما يتطرق تفصيلاً إلى الدور المهم الذي يؤدّيه المصرف المركزي، خصوصاً منذ إطلاقه عام 2013 سلة تحفيزات لتشجيع التسليف بالليرة، وصولاً إلى إصداره التعميم 134 في شباط 2015 حول أصول إجراء العمليات المصرفية والمالية للعملاء، تحت عنوان حقوق حماية العملاء ضمن المسؤولية الاجتماعية للمصارف والشركات المالية، وبدء سريان القرار في الفصل الأخير من العام المنصرم.

نشأ مفهوم المسؤولية الاجتماعية للشركات في الستينات من القرن الماضي، إلا أنه لم يشهد انطلاقته إلا في التسعينات منه. وهو عبارة عن مسؤولية الشركات إزاء الانعكاسات التي يولدها أداؤها على المجتمع. تطال المسؤولية الاجتماعية مجالات عدة، من حقوق الإنسان والعمالة والبيئة ومحاربة الغش. وتنطلق من المبادئ العشرة للميثاق العالمي للأمم المتحدة في مجال المسؤولية الاجتماعية، والتي تضم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعلان منظمة العمل الدولية والمبادئ الأساسية في العمل وإعلان ريو (Rio) حول البيئة والتنمية وميثاق الأمم المتحدة ضد الغش بالإضافة الى معيار 26000 ISO الدولي.

والمبادئ العشرة للميثاق العالمي للأمم المتحدة هي: في حقوق الإنسان: (1) دعم الشركات واحترام حماية حقوق الإنسان المعلنة و(2) التأكد من عدم تورط الشركات في انتهاكات حقوق الإنسان في شق العمل. (3) دعم الشركات حرية الجمعيات والاعتراف الفعلي بأحقية المفاوضات الجماعية. (4) القضاء على جميع أشكال العمل القسري والإجباري. (5) الإلغاء الفعلي لعمالة الأطفال و(6) القضاء على التمييز في ما يخص الاستخدام والمهنة في البيئة. (7) دعم الشركات لنهج تحوطي لمواجهة التحديات البيئة. (8) اتخاذ مبادرات لتشجيع أكبر للمسؤولية البيئية، (9) وتشجيع وتطوير ونشر التقنيات الصديقة للبيئة في محاربة الغش. (10) على الشركات العمل ضد الغش بجميع أشكاله بما فيها الابتزاز والرشوة.

أما معيار أيزو 26000 ISO الدولي الذي أطلقته المنطمة الدولية للمعايير في تشرين الثاني 2010 فيقدم توجيهات في خصوص المسؤولية الاجتماعية، والهدف منه المشاركة في عملية التنمية المستدامة العالمية بسلوك عمل شفاف وأخلاقي من خلال تشجيع الشركات والمنظمات الأخرى على المشاركة في ممارسة المسؤولية الاجتماعية وتعميمها على مستخدمي هذه الشركات والمنظمات وبيئتها الطبيعية ومجتمعاتها. وبحسب المعيار المذكور، لا تقتصر المسؤولية الاجتماعية على مجرد تقديم مساعدات حياتية بل تساهم في إنعاش المجتمع في مجالات متعدة، لا سيما الصحة ورفاهية المجتمع، بما فيها الفن والثقافة والرياضة. وباتت مسألة الاستدامة القضية الأولى في المسؤولية الاجتماعية كون ازدهار الأعمال على المدى الطويل يرتبط بازدهار المجتمعات التي تخدمها الشركات.

في ما يخص مصرف لبنان، فبالإضافة الى الدور الذي يقوم به في تنفيذ السياسة النقدية من خلال تأمين الاستقرار النقدي وسلامة القطاع المصرفي، تتمحور توجهاته حول مبادرات وهندسات توازن بين تحفيز الاقتصاد وتنمية المجتمع. وتنزع سياسته نحو استعمال أكبر لصلاحياته القانونية التي يمنحه إياها قانون النقد والتسليف ونحو إطلاق تعاميم تفيد المجتمع اللبناني وتحرك الحركة الاقتصادية بالتوافق مع المصارف اللبنانية. فقد وضع المصرف المركزي قدراته النقدية في خدمة المجتمع اللبناني واقتصاده، بحيث يقوم منذ سنوات بعمليات ذات صلة بالمسؤولية الاجتماعية التي باتت تدخل في صلب مهمته. وبات يشجع جميع المصارف على منح القروض الميسرة للقطاعات الإنمائية والسكنية والتعليمية والبيئية والطاقة البديلة، كما يشجع اقتصاد المعرفة من خلال منح القروض الصغيرة للأفراد ولأصحاب المؤسسات الصغيرة من أجل مساعدتهم على تطوير مشاريع خاصة بهم وعلى تحسين أوضاعهم المعيشية.

فقد أطلق المصرف المركزي في العام 2013 سلة تحفيزات لتشجيع التسليف بالليرة، استكملها في السنوات اللاحقة بمبالغ إضافية لتقارب قيمتها حتى تاريخه ما يوازي 5 مليارات دولار يُقدم من خلالها للمصارف التسهيلات بالليرة بفائدة 1% بغية إقراضها لقطاعات السكن والمشاريع الجديدة والطاقة البديلة والتحصيل الجامعي والأبحاث والتطوير وريادة الأعمال، بهدف تعزيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل والحد من هجرة الشباب. وفي آب 2013، أصدر مصرف لبنان تعميماً يهدف الى دعم قطاع الشركات الناشئة التي ترتكز على اقتصاد المعرفة لتوفير فرص عمل وزيادة موارد الاقتصاد الوطني. وقد تم لتاريخه توظيف ما يعادل 250 مليون دولار في اقتصاد المعرفة هذا.

ودعم مصرف لبنان الجهد الوطني لتحسين البيئة، فوضع استراتيجية ضمن سقف قانون النقد والتسليف مكّنته من دعم هذا النشاط ابتداء من العام 2010. وتجاوزت قيمة الاستثمارات في قطاع البيئة والطاقة المتجددة 500 مليون دولار استفاد منها 256 مقترضاً ووفرت ما يقارب 10 آلاف فرصة عمل جديدة. ويمثّل القطاع البيئي مصدر ثروة للبلاد، إذ يشكل 2% الى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وله تأثير غير مباشر على القطاعات الاقتصادية الأخرى كالسياحة، بالإضافة الى الانعكاسات الصحية وتخفيف نسبة التلوث. كما يشجع المصرف المركزي على استخدام الطاقة البديلة كونها ذات منفعة اقتصادية وبيئية صحية، وهو يحض المصارف على احترام المعايير البيئية الدولية لدى قيامها بدراسة وتقويم المشاريع المعروضة عليها للتمويل بناء للمبادئ التي تضعها منظمات ومؤسسات دولية كمؤسسة التمويل الدولية (IFC). ويسعى المصرف المركزي الى زيادة المناطق والمساحات الخضراء وخلق بيئة نظيفة وصحية وأكثر أماناً للمواطنين والى تحفيز القطاعين العام والخاص على القيام بمبادرات مماثلة. وتجدر الإشارة الى أن مصرف لبنان وقّع مؤخراً مع صندوق البيئة العالمية (GEF) اتفاقاً لتمويل مشروع وحدات انتاج صغيرة لامركزية من الطاقة المتجددة.

وتقديراً من المصرف المركزي للإنجازات في مجال الثقافة والمعرفة والفكر، فهو يساهم في تعزيز فرص التعليم عن طريق رزمة من الحوافز للقطاع المصرفي، بالإضافة الى تدريب أساتذة الاقتصاد واستقبال تلامذة من مختلف الجامعات في لبنان وتدريبهم داخل المصرف المركزي. حتى أن اهتمامه يطال المجال الرياضي من خلال دعمه نشاطات رياضية متنوعة.

ويندرج التعميم 134 الذي أصدره المصرف المركزي في شباط 2015 والمتعلق بالقرار الأساسي الرقم 11947 حول «أصول إجراء العمليات المصرفية والمالية مع العملاء» تحت عنوان حقوق حماية العملاء ضمن المسؤولية الاجتماعية للمصارف والشركات المالية بما يولي هيئة الأسواق المالية ولجنة الرقابة على المصارف دوراً حاسماً في حماية المستهلك، لجهة تثقيف العملاء وتوعيتهم وتوضيح حقوقهم، الأمر الذي يعود بالفائدة المباشرة على الطرفين.

في ما يتعلق بالمصارف، فإنها تطلق مبادرات في حقل المسؤولية الاجتماعية تبعاً للتوجه العالمي الذي تدعمه المؤسسات الدولية. ومن المُنتظر أن يكون دورها مهماً في تطوير المجتمع نظراً للطاقات الكبيرة التي تتمتع بها وما يمكن أن ينجم عنها من انعكاسات اجتماعية على المجتمع اللبناني. واللافت أن المصارف التي تبنت نهج المسؤولية الاجتماعية تطبق المعايير العالمية، خصوصاً 26000 ISO،Global Reporting Initiative GRI G4 ، وكذلك المبادئ العالمية العشرة للأمم المتحدةUN Global (principal 10) في مجال حقوق الإنسان والعمل والبيئة ومحاربة الغش.

وتتركز المسؤولية الاجتماعية للمصارف في لبنان على ثلاثة حقول أساسية هي الثقافة والتعليم والبيئة، فيما تستثمر بعض المصارف في مواردها البشرية بمواكبة طاقم من ذوي الخبرة والاختصاص من بعض الجهات والمنظمات العالمية لتسويق عدد من البرامج وتقديم النصح للزبائن ودرس الأثر البيئي لاستثماراتهم. وتقوم غالبية المصارف مدعومة من مصرف لبنان بمنح القروض الصغيرة، وتمويل مشاريع تشجّع على النمو المستدام والسياحة والمحافظة على البيئة وحتى على التنوع البيولوجي. كما يقدم عدد من المصارف قروضاً للمباني الخضراء في إطار الشراكة مع منظمات عالمية كمؤسسة التمويل الدولية والبنك الأوروبي للاستثمار.

إلا أن وضع المصارف اللبنانية حيال المسؤولية الاجتماعية يبقى لدى البعض دون المتوسط العالمي. إذ لا تدخل المسؤولية الاجتماعية ضمن الاستراتيجية الشاملة لعدد كبير من المصارف، علماً أن ذلك لم يعد خياراً إنما استثماراً على المدى الطويل. ولا يزال عدد المصارف العاملة في لبنان التي تُصدر تقارير تحت عنوان «المسؤولية الاجتماعية» متدنياً على الرغم من تزايده. علماً أن لتبني المصارف استراتيجيات اجتماعية وبيئية تأثيراً ايجابياً لجهة تحسين أداء المصرف وسمعته ودفعه نحو الابتكار. كما من شأنه توسيع نشاطه وزيادة أرباحه على المدى الطويل، فضلاً عن تحقيق تطور ملموس وتقديم أفضل المنتجات والخدمات، وفق ممارسات أكثر التزاماً بأخلاقيات الانتاج والتسويق، التي تصون السمعة، من جهة، وتحمي مصالح المستهلكين، من جهة أخرى. فثمة ارتباط كبير بين ما تؤمّنه المؤسسات وبين سمعتها وإدراكها للمسؤولية الاجتماعية. فالأخيرة لا تُعتبر بمثابة عمل خير أو إنفاق إضافي للمصرف، إنما هي استثمار حقيقي لناحية إدارة مخاطر البيئة والمجتمع. إنها مؤشر يسمح بتقويم صورة المؤسسة المالية، وسمعتها والثقة التي توحيها. وتقوم المسؤولية الاجتماعية على دمج الخبرات لمساعدة المستهلكين على الوصول الى أهدافهم، ومساعدة المؤسسات للوصول الى الرأسمال لتشجيع النمو الاقتصادي والالتزام بمبادرات مستدامة ذات قيمة للمساهمين والزبائن والموظفين والمجتمع ككل.