كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:
في الدوائر المتابعة للوضع في المنطقة تسود نظرية بات أنصارها كثر في الخارج، ومفادها أنه فيما المنطقة ذاهبة الى مرحلة انتقالية انتظارية بين حقبتي إنتاج معادلات الحلول الكبرى الجارية الآن وبدايات تنفيذها أقله مع بدء السنة المقبلة، فإنّ لبنان لا يستطيع الإنتظار بسبب أوضاعه الداخلية، وبات مطلوباً «تهريب» حلول سريعة لأزماته ضمن الهدنة الإنتظارية الإقليمية.على السؤال لماذا لا يستطيع لبنان الانتظار، تُقدّم إجابات مختلفة، وأبرزها أنّ المساعدات الدولية لإستيعاب النازحين السوريين تمتص معظمها تركيا والاردن، فيما لبنان لا تصله منها إلاّ الفتات، علماً أنّ نسبة عالية من بين مجمل النازحين السوريين تقيم في ارضه، وسبب ذلك غياب قيادة سياسية في لبنان مقنعة للدول المانحة، أو حتى للجمعيات الدولية المنخرطة في جهد إغاثة النازحين السوريين.
الحكومة السلامية في نظر هذه الدول والجهات، تبدو اضعف من سابقتها الحكومة الميقاتية على رغم أنّ تشكيل «حكومة المصلحة الوطنية « كما سماها رئيسها تمام سلام، حظي بإجماع وطني، لكنّ هذا الاجماع سرعان ما تحطم نتيجة تطورات الأوضاع الاقليمية.
وأخطر ما يشهده لبنان حالياً في ظلّ شلل قيادته السياسية، هو أنه يتعرض لنوعٍ من التحوّلات الديموغرافية العميقة لأن طفرة النزوح السوري اليه، تتفاعل وتتكاثر في البلد بغياب أيّ خطة لبنانية رسمية لاستيعابها وتنظيم وجودها وإبقائها في إطار انها نزوح طارئ وذات نتائج غير مستديمة على لبنان.
ويُعتبر مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين مثالاً حيّاً على ما يحصل في لبنان من تحوّلٍ ديموغرافي جوهري وجدي، وذلك في غياب أيّ خطة لاحتواء الطفرة أو الحدّ من آثارها العميقة على الاجتماع اللبناني بكلّ تلاوينه.
قصارى القول في هذا المجال إنّ مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين الواقع جنوب بيروت، لم يعد مخيماً لهم، بل أصبح مخيماً للنازحين السوريين. هوية المخيم الديموغرافية تغيّرت فعلياً وأصبحت سوريّة بعد أن كانت طوال ثمانية عقود خلت فلسطينية.
«الجمهورية» حصلت من جهات فلسطينية مسؤولة على معلومات موثقة ترصد ظاهرة تغيّر الهوية الديموغرافية للمخيم، وتحوّله مخيّماً سورياً تقيم فيه غالبية سورية نازحة، فيما صفته كمخيم للاجئين الفلسطينيين تبدّدت ديموغرافياً بنسبة 90 في المئة تقريباً، وذلك في خلال ثلاثة أعوام فقط.
ماذا تقول الوقائع؟
تبلغ مساحة مخيم برج البراجنة كيلومتراً مربعاً، يقيم داخله حالياً، حسب آخر إحصائية مصدرها جهة فلسطينية في المخيم، نحو ٤٩ الفاً و٥٠٠ نسمة.
وقبل أسابيع قامت الجهة الفلسطينية عينها بتعبئة ثمانية آلاف استمارة بهدف رصد أعداد النازحين السوريين الوافدين الى المخيم والمقيمين فيه.
طبعاً عملية ملء الاستمارات التي تشتمل على خانات عن إسم كلّ نازح وعائلته وعن المكان الذي أتى منه من سوريا وعن طبيعة إقامته في مخيم برج البراجنة (الخ..)، لا تزال مستمرة لإنجاز مسح كلّ النازحين السوريبن فيه، ولكنّ القراءة السياسية والديموغرافية لما أُنجز منها حتى الآن تُظهِر الملاحظات الأساسية الخطرة الآتية:
اولاً- عدد إجمالي سكان المخيم حالياً هو ٤٩ الفاً و٥٠٠ نسمة، نسبة اللاجئين الفلسطينيين منهم هي ١٠ في المئة فقط. أما بقية المقيمين فيه فهم غالباً من النازحين السوريين، أي أكثر من أربعين ألف نازح.
قبل أقل من ستة اشهر أظهر «استطلاع استمارات» أيضاً أنّ إجمالي عدد سكان المخيم كان ٤٠ الفاً، ما يعني أنّ نسبة زيادة المقيمين فيه ارتفعت خلال اشهر معدودة نحو ١٠ آلاف نسمة، والمسؤول عن ذلك حصراً هو استمرار تعاظم نسبة النازحين السوريين الوافدين اليه، في مقابل عدم وجود أيّ خطة لا فلسطينية ولا لبنانية، تحدّد سقفَ أعدادهم داخل المخيم لضمان منع حدوث تضخم سكاني في داخله ينذر بانفجار اجتماعي من جهة، ويؤدّي من جهة أخرى الى تغيير في هوية المخيم السياسية، بحيث لا يعود جزء من ديموغرافيا اللجوء الفلسطيني في لبنان.
تُظهر الاستمارات الأخيرة أنّ النازحين السوريين الوافدين الى المخيم يأتون اليه من مناطق بعيدة في سوريا، ما يرسم سؤالاً استنتاجياً (وليس بالضرورة معلوماتياً) عما إذا كانت هناك جهة توجّه هذا النزوح في اتجاهه تحديداً، بالاضافة الى مخيم شاتيلا، علماً أنّ كليهما يقعان جغرافياً على كتف الضاحية الجنوبية لبيروت.
تكشف أرقام الاستمارات الثمانية آلاف أنّ الفئة الأكبر من النازحين السوريين جاءت الى المخيم من المناطق السورية الآتية: الرقة (معقل «داعش») وهؤلاء هم الأكثر، ومن ثمّ إدلب، وتالياً درعا على الحدود الأردنية ـ السورية. ويُلاحظ أنّ أعداد النازحين التي وفدت الى المخيم من مناطق سورية قريبة من الحدود اللبنانية قليلة جداً!!.
ثانياً- تكشف معطيات الاستمارات المنجزة عن وجود حركة إعمار وبناء لافتة في المخيم. خلال الشهرين المنصرمين وحدهما بدأت عمليات تشييد ١٦ بناءً. وكان شهد في العامين الماضيين بناء عدد كبير من الأبنية معظمها يتكوّن من ١٢ طبقة.
معظم أصحاب مشاريع إنشاء المباني السكنية الجديدة في المخيم هم فلسطينيون مطلوبون للدولة بجرائم مختلفة، وبعضهم ينتمي الى التيار السلفي. ويُلاحظ أنّ هؤلاء ظهر عليهم الثراء فجأة، ما يطرح السؤال عن الجهات التي تموّلهم وعما ما إذا كانت واجهات مالية لقوى منظمة سياسية.
نسبة ٨٠ في المئة من المباني الجديدة في مخيم برج البراجنة يقيم فيها نازحون سوريون. ويشهد المخيم ارتفاعَ سعر إيجارات الشقق، حيث يبلغ إيجار شقة (٨٠ م٢) ٥٠٠ دولار شهرياً، بينما سابقاً لم تكن تتجاوز الـ ٢٥٠ دولاراً.
وضمن هذا الاطار تلاحظ معلومات متصلة وجود حركة نزوح سوري مركزة ومستمرة الى مخيمي برج البراجنة وشاتيلا، ومعظمها يأتي من المناطق السورية البعيدة، أي الشمالية والشرقية. ويستمرّ توافد النازحين حالياً في التعاظم على رغم أنّ الحدود اللبنانية بدأت تسجل منذ إعلان هدنة وقف إطلاق النار، انخفاضَ أعداد النازحين السوريين الى لبنان.
ثالثاً- الطيف العقائدي والسياسي في المخيم يمكن قراءته من خلال توزّع المساجد فيه، ويبلغ عددها خمسة:
ـ مصلى جديد تمّ إنشاؤه منذ أشهر قليلة ويتولّى مسؤليته رجل دين سلفي وهو في الوقت نفسه شقيق مسؤول بارز في حركة «حماس» في لبنان.
ـ جامع «الفرقان»، ويقع عند باب المخيم ويشرف عليه رجال دين ينتمون الى حركة «الجهاد الاسلامي» القريبة من حزب الله.
ـ جامع الكراد وموقعه بين المخيم وحي الكراد الكائن في جوار المخيم اللبناني. ويشرف عليه شيخ سلفي معروف في تلك المنطقة من ال «ع».
ـ جامع فلسطين وهو أقدم مساجد المخيم وذو صبغة تقليدية وليس مصنّفاً حزبياً او عقائدياً.
ـ جامع «الأحباش» وتعود المسؤولية عنه لجماعة «الاحباش».
يبدو واضحاً ممّا تقدّم أنّ مساحة الكيلومتر الواحد التي هي مساحة المخيم تتسع لكلّ تعبيرات التباينات الأيديولوجية داخل الحركة الإسلامية، كما أنه بدا لجهة مشاريع البناء النشطة والمكلفة فيه يتأقلم مع حاجته لأن يتسع لطفرة نزوح سوريّة كبيرة يتركز توافدها اليه من مناطق معينة، وتُموَّل عملية استيعابها سكنياً من أموال مجهولة المصدر، هذا في الوقت نفسه الذي بدأ فيه المخيم يفقد هويته الفلسطينية ليصبح مخيماً للنازحين السوريين!؟